صفقة ترامب.. الرواية الصهيونية للتاريخ
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 2 فبراير 2020 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
تكتسب خطة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» لتسوية الصراع الفلسطينى الإسرائيلى خطورتها الحقيقية من مستوى التزامها بالرواية الصهيونية للتاريخ، التى تحكم النصوص والإجراءات وتكشف ما قد يحدث تاليا.
فى خطابه الاستعراضى بالبيت الأبيض، وهو يعلن خطته التى توصف إعلاميا بـ«صفقة القرن»، عاب على العرب دخول حرب (1948) ضد «إسرائيل الوليدة» بدلا من أن يعترفوا بها.
كان ذلك مدخلا إلى الصفقة وليس تزيدا على موضوعها.
إضفاء مشروعية أخلاقية على أوسع عملية تهجير جماعى بإرهاب السلاح لعشرات آلاف الفلسطينيين خارج ديارهم يفضى ــ بالتداعيات ــ إلى إنكار حق العودة.
والاعتذار عن حرب (1948) يعنى أننا ــ بالضرورة ــ كنا الطرف المعتدى على «حمل برىء»!
بالمعايير العسكرية لم تكن تلك الحرب متكافئة.
بالأرقام: بلغ ما استطاعت حشده الوكالة اليهودية (٨١) ألف مقاتل معظمهم ضباط اكتسبوا خبرة عسكرية فى سنوات الحرب العالمية الثانية، فيما كانت أعداد الجيوش العربية مجتمعة (٣٧) ألف ضابط وجندى.
وكانت أعداد الطائرات التى فى حوزة القوات اليهودية (٧٨) طائرة عند بداية الحرب فيما لم تتجاوز الـ(٣٠) طائرة على الجانب العربى ـ حسب ما أورده الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى «العروش والجيوش»، وهو كتاب مرجعى من جزأين أهميته فى قدر توثيقه، حيث يتضمن سجلا كاملا للبرقيات العسكرية المصرية أثناء الحرب.
«كانت الحرب فى جوهرها صداما بين مشروعين، مشروع صهيونى استكمل عناصر قوته يعمل على إعادة رسم خرائط المنطقة ومشروع قومى عربى تائه فى كواليس الحكم وفوق مسارح الأحداث يبحث عمن يجسده لمواجهة طوارئ الأحداث المشتعلة بالنيران والمخاوف»، كما كتب مستخلصا.
لم يكن رئيس الحكومة المصرية «محمود فهمى النقراشى» موافقا على التدخل العسكرى مثل أغلب النخب الحاكمة.
كان رأى الحاج «أمين الحسينى» ـ مفتى فلسطين والمتحدث الأول باسم شعبها ـ أن تسند مهمة المواجهة العسكرية إلى جماعات المتطوعين ودعمها بالسلاح والمال، على أن تبقى الجيوش رابضة على الحدود متأهبة ومستعدة.
فى المشهد العسكرى نسبت إلى رجلين، أكثر من غيرهما، مسئولية النكبة.
الأول ـ اللواء المصرى «أحمد المواوى»، قائد حملة فلسطين.
بعد الحرب حاول أن يبرئ ساحته، كاشفا عن مخاطبات كتبها لقياداته يحتج فيها على إرسال القوات دون تدريب كاف، أو أسلحة لازمة.
والثانى ـ الجنرال الإنجليزى «جون باجوب جالوب»، الذى أسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية، وكانت إدارته للحرب من عمان، التزاما كاملا بالاستراتيجية البريطانية، لم يتجاوز خطوط التقسيم المنصوص عليها فى قرار الأمم المتحدة، حين كان متاحا التقدم وكسب الأرض، فيما كانت الدولة العبرية الوليدة تتوغل فيما تستطيع أن تصل إليه دون اعتبار لأية قرارات دولية.
وقد طرد من منصبه باحتجاجات شعبية فى الأردن عند ذروة صعود التيار القومى عام (1956).
لم تكن إشارة «ترامب» إلى أول حرب عربية إسرائيلية جملة عابرة لا لزوم لها فى خطاب احتفالى بإطلاق خطته رسميا بقدر ما كانت صراحة زائدة عن جوهرها.
فى ذلك الخطاب أفرط الرئيس الأمريكى، وبجواره على منصة الاحتفال رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» مصفقا لكل كلمة ينطق بها، باستخدام كلمتى «رؤيتى» و«خطتى»، كأن ما جاء بها تنتسب إليه وحده، وقد هبطت عليه فى لحظة تجل.
كان «نابليون بونابرت» أول من التفت إلى استخدام «الورقة اليهودية» فى ترتيب أوضاع منطقة الشرق الأوسط.
فى نداء إلى يهود العالم «ورثة فلسطين الشرعيين» دعاهم أن يتحركوا «لاستعادة حقوقهم التى سلبت لآلاف السنين وهى وجودهم السياسى كأمة بين الأمم».
وجدت دعوته صياغتها العملية فى وعد اللورد «أرثر بلفور» وزير الخارجية البريطانى بنوفمبر (1917): «إن حكومة صاحبة الجلالة تنظر بالعطف إلى إنشاء وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف».
كان الهدف واحدا وهو منع أى احتمال لظهور قوة عربية كبرى تقودها مصر توحد المنطقة، وقد دفع الفلسطينيون الثمن باهظا من حياتهم ومستقبلهم.
تزاوجت الأساطير الصهيونية مع المصالح الاستراتيجية الغربية وولدت دولة إسرائيل على أنقاض حقوق الشعب الفلسطينى.
«ترامب» جملة جديدة فى سياق طويل، لا الرؤية رؤيته ولا الخطة خطته، ولا التفاصيل الإجرائية هو صاحبها، حيث تنتمى بالكامل لرؤية اليمين الليكودى فى إسرائيل.
إنها سطوة الأساطير ولغة القوة فى تفسير التاريخ، فحدود إسرائيل تقف عند ما تستطيع أن تصل إليه بالسلاح إلى حين توسع آخر بغض النظر عن القانون الدولى والمرجعيات الدولية وحقوق الفلسطينيين فى القدس والضفة الغربية وغور الأردن.
إلغاء الفلسطينيين جوهر النظرة الصهيونية، كأن فلسطين أرض بلا شعب، لكن المقتضيات العملية تدعو إلى شىء ما يقدم إليهم، دولة مسخ أقرب إلى جيتوهات معزولة ممزقة بلا اتصال جغرافى وبلا سيادة وبلا سلاح وخاضعة بالكامل لمقتضيات الأمن الإسرائيلى فيما حق العودة مشطوب إلى الأبد.
كل خيار ممكن لحل أزمة اللاجئين الفلسطينيين إلا العودة إلى ديارهم، الاندماج فى الدول التى تستضيفهم الآن خيار أول، والاستيعاب بشروط فى الدولة الفلسطينية الجديدة خيار ثان، والتوطين فى دول مجلس التعاون الإسلامى خيار ثالث.
بحسب جهاز الإحصاء الفلسطينى تضاعفت أعداد الفلسطينيين نحو (9) مرات منذ مايو (1948) إلى مايو (2016) .
بحسب تقديرات أخرى فإن أعدادهم على الأرض بكامل التراب الفلسطينى التاريخى ربما يكون فى حدود ستة ملايين نسمة.
إذا ما ضمت إسرائيل الأراضى المحتلة فإن معضلتها الديموجرافية لا حل لها.
يهودية الدولة العبرية شبه مستحيلة، حتى لو اعترف الفلسطينيون والعرب، حسب خطة «ترامب»، فما الحل فى الكتلة السكانية العربية خلف الجدار، التمييز العنصرى وصمة عار والتهجير الجماعى القسرى شبه مستحيل فى العصر الحالى.
فى سيناريو آخر، كارثى بالحساب الإسرائيلى، فإن دمج الفلسطينيين فى الدولة العبرية ينهى يهوديتها ويجعل من حكم الأغلبية العربية مسألة وقت.
كل الاحتمالات والسيناريوهات تؤكد عدم قدرة إسرائيل على البقاء بينما نحن نعطيها بالعجز والتخاذل كل أسباب القوة والصلف وفرض روايتها للتاريخ علينا.