جريمة تاريخية مكتملة الأركان
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الثلاثاء 3 مايو 2016 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
لأول مرة فى تاريخها الذى يمتد لخمس وسبعين سنة تقتحم نقابة الصحفيين وتنتهك حرمتها دون سند من قانون.
فى الانتهاك تدهور غير مسبوق بين الصحافة والأمن وتساؤلات حرجة عن المستقبل المنظور.
لا يمكن أن تستقر أية أوضاع تغلبها نوازع القوة وتغيب عنها أية قواعد لدولة حديثة.
من مفارقات المواقيت أن الاقتحام الأمنى لنقابة الصحفيين تزامن مع اليوم العالمى لحرية الصحافة.
لسنا فى حاجة لمن يتوقع نصوص البيانات والإدانات، ولا آثارها المدمرة على صورة نظام الحكم الحالى، ولا سبيل لوصف كل تضامن دولى مع النقابة المصرية بـ«المؤامرة».
الذى انتهك حرمة نقابة الصحفيين هو الذى يتآمر على فرص هذا البلد فى التعافى وتحسين سجله فى الحريات العامة وحقوق الإنسان.
ما الذى يمكن أن يستخلصه العالم من اقتحام النقابة العتيدة سوى أن حرية الصحافة فى مصر منتهكة بفداحة والأمن يدوس كبرياءها بالأقدام الغليظة.
حرية الصحافة هى القضية الأكثر قداسة فى العالم كله.
لم يكن غريبا أن يهرع أمين عام الأمم المتحدة «بان كى مون» لإبداء قلقه.
ولا أن تتبارى كبريات الصحف ووكالات الأنباء الدولية فى إبداء التضامن مع النقابة المصرية.
ولا أن يتحول الاحتفال العالمى بيوم الصحافة إلى إدانات موسعة للأوضاع الحالية فى مصر.
ولا أن تنضم إلى الموقف نفسه الجامعات ومراكز التفكير، وكلها مؤثرة على مراكز القرار السياسى فى بلدانها.
بقرار أقل ما يوصف بأنه «أحمق» أدخل النظام كله إلى أسوأ أزماته.
لا يقول أحد إن الصحافة على رأسها «تاج من الريش» يضعها فوق القانون ويعصم العاملين بها من المساءلة.
هذه بديهية لا تصح المجادلة فيها.
القضية ليست فى تيجان الريش بل فى خرق القواعد القانونية على نحو لا يمكن تقبله من أى صحفى يحترم نفسه والمهنة التى ينتسب إليها.
لم تلتزم قوة الاقتحام بأية إجراءات قانونية تمنع تفتيش النقابة إلا «بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة وبحضور نقيب الصحفيين».
أمام ردات الفعل ترك الملف بالكامل للداخلية وإعلامها، كأنها مباراة فى التصعيد بين الصحافة والأمن.
هناك من لا يرد أن يعتذر وأن يصحح خطأه ويرد اعتبار نقابة الرأى الأولى فى البلد، كأن الأصل هو الاستهانة بكل قيمة سياسية ونقابية وقانونية.
فى استعراض العضلات الأمنية داخل نقابة الحريات العامة جهل مدقع بتداعياته الخطيرة.
هناك أزمات لا تخفت بالوقت وجروح تأبى على النسيان.
فى الاستخفاف بالقانون نزوع لتأسيس دولة بوليسية بعد ثورتين دعيتا إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
النزوع يناقض الحقائق، فمصر تغيرت بعمق ولا يمكن أن تحكم بقبضات الأمن كأنها بديل ممكن عن السياسة ووسائلها والقوانين واحترامها.
للأمن أدواره التى لا يصح التفريط فيها غير أن تمدده إلى غير ميادينه ينال من صورته بقسوة فى لحظة حرب مع الإرهاب.
الأمن فى صلب دوره إحدى ضحايا الاقتحام العشوائى لنقابة الصحفيين.
الاقتحام يوسع من احتمالات الانزلاق إلى كراهيات متبادلة بين الصحافة والأمن فلا يجد الأخير ما يحتاجه من دعم ضرورى للوفاء بمهامه الأساسية.
الكراهيات المتبادلة تسميم للمجال العام واندفاع إلى فوضى غير محتملة.
إذا لم نصارح أنفسنا بالحقائق فسوف تخسر مصر أية رهانات على استقرارها ويتقوض أمنها عند أول منعطف وتدخل فى نطاق الدول الفاشلة لا محالة.
لا يمكن أن يتأسس أمن على قمع مفرط يتصور أن عضلاته تغنيه عن أى غطاء سياسى.
بقدر الحاجة إلى الأمن ودوره فى حفظ سلامة المجتمع فإنه يحتاج لإصلاح جهازه وفق القواعد الحديثة حتى يكتسب ثقة مواطنيه.
أول اشتراطات أى نجاح محتمل للمنظومة الأمنية ألا تتغول على مواطنيها أو أن يسند إليها أدوار تناقض طبيعتها.
إسناد المهام السياسية إلى الأمن يؤسس لدولة هشة يعوزها أى خطاب سياسى قادر على التأثير والإقناع.
كمثال فإن الإدارة الأمنية لأزمة التخلى عن جزيرتى «تيران» و«صنافير» عنوان على الفشل المسبق.
تلك الملفات الحساسة فوق طاقة الأمن.
كلما ارتفع منسوب القمع زادت الشكوك فى التوجهات وخلفيتها.
لم تكن الاعتقالات العشوائية من على المقاهى ومداهمات البيوت بتهمة «النية فى التظاهر» فى ذكرى تحرير سيناء دليل قوة بقدر ما عبرت عن فقر غير مسبوق فى الأداء السياسى.
لأية قوة حدود لا تستطيع تجاوزها.
تغليب الأمنى على السياسى مشروع تصدع ينتظر مواقيته.
من الإجحاف تحميل الأمن وحده مسئولية اقتحام النقابة.
أين الرئاسة من ذلك كله؟
إما أنها كانت تعرف أو أنها لا تعرف.
مثل تلك الأمور الحساسة لا تحتمل غموضا بالمواقف أو تأويلا فى النوايا.
إذا لم تتكلم وتصحح وتعتذر باسم السلطة التنفيذية التى تترأسها فالأمور سوف تزداد سوءا والاشتباه سوف يشملها.
رغم التناقضات الفادحة بين النظم السياسية التى تعاقبت على مصر منذ تأسيس نقابة الصحفيين عام (١٩٤١) تجنبت بلا استثناء واحد اقتحامها بأية ذريعة وتحت أى ظرف.
كان ذلك إدراكا لمغبة الصدام المفتوح مع «صناع الرأى العام».
خسارة كل الصحافة تعنى بالضبط خسارة أى مستقبل.
المثير أن العدوان على نقابة الصحفيين يرافق التطلع لتأسيس نظام إعلامى جديد كأن المتناقضات تتزاوج فى مشهد واحد داخل نص ينتسب إلى مسرح العبث.
وفق القانون الموحد للإعلام والصحافة الذى صاغته لجنة تمثل نقابات الصحفيين والإعلاميين (تحت التأسيس) وماسبيرو ممثلا للإعلام العام وغرفة صناعة الإعلام ممثلة للفضائيات الخاصة فضلا عن خبراء إعلاميين وقانونيين فإننا أمام أوضاع جديدة أكثر اتساقا مع الدستور وروحه.
فى أية قراءة جدية لا يمكن أن يستقيم اقتحام نقابة الصحفيين مع النظام الإعلامى المرتقب.
بأية مراجعة للتاريخ، وصفحاته ماثلة، لم يخسر الصحفيون معركة واحدة متى توحدت صفوفهم والتقت كلمتهم.
اقتحام النقابة بعنجهية القوة استدعى وحدة الصحفيين كما لم يحدث منذ سنوات طويلة.
الأخطر من الاقتحام عدم إدراك عواقبه.
فهو يؤشر إلى نزيف فى منسوب الثقة العامة وتراجع فى معدلات الشعبية ونزيف فى الشرعية.
إذا لم تكن هناك مراجعة لجذور الأزمات والتزام جدى بقواعد دولة القانون فإن كل شىء مفتوح على المجهول ولا يوجد سيناريو واحد يمكن استبعاده.
الصدامات المفتوحة حماقات كاملة.
فى تغول الأمن بلا قواعد تحكمه ترجيح لتصعيدات أخرى مع النقابات المهنية التى تتعرض لتحرشات أمنية يمكن تفاديها بشىء من السياسة واحترام القواعد والقوانين.
خسارة النقابات المهنية بما يمثله منتسبوها من ثقل فى الطبقة الوسطى المدينية من علامات التصدعات الكبرى.
أمام شىء من الجنون فى جريمة تاريخية مكتملة الأركان تحتاج مصر المنهكة إلى شىء من الرشد يمنع تمدد الكوارث إلى نهاياتها.