كرر العشاق عبر آلاف السنين أنفسهم فى وصف المرأة، حظ الحياة من الجمال. بعض من هذا الوصف طافت به قصائد الغزل الـ«صريح» يكشف فى غير حرج مفاتن الجسد ومواضع الفتنة والإثارة، بداية من الهيام شوقا بكحل العيون ودقة الأنوف وحمرة الوجنات والشفاه، ونصاعة الأسنان التى تشبه حبات برد من ثلج بلورى، مرورا بفتنة النهد والكشْح وانتهاء بالخصر والسيقان.
الحقيقة أن أغلب قصائد الغزل التى نعرفها تقع فى فئة الغزل الـ«عفيف»، ذلك الحب العذرى، يتحاشى فيه العاشق وصف الجسد المادى الحسى من لمس وهمس ومس، متعففا مترفعا إلى وصف الشوق والسهد والوجد، والشجن وألم الفراق، وفرحة اللقاء بطيف المحبوب.
أمير الشعراء أحمد شوقى، آخر من احتفظ من الشعر الجاهلى بهذا النوع من الشعر العفيف حين افتتح قصيدة فى المديح النبوى ببيت يصف فيه حبيبته بأنها ريم (ظبي) متفرد لا شبيه له، يقف هذا الظبى (الذى يشبه الغزال) وحيدا فى بطن واد فسيح، يتفرد الظبى فى وقوفه بين علم من الجبال وأشجار رفيعات متناثرات يسميها العرب شجر «البان».
يقول شوقى:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمى فى الأشهر الحرم
يقع العاشق صريعا مقتولا لدرجة أن الظبى الفتان لم يعترف بحرمة أشهر القتال، وهم بقتله بجمال لحظه، أصاب صاحبنا العاشق بسهم فى جنبه من أول نظرة، وأحل دمه غير معترف بقداسة الأشهر الحرم.
وأحيانا، يعترف الرجل بأنه وقع فى حب امرأة لأنها تمثل له فى الحياة نورا ومصباحا هاديا. الحب هنا هاديا فى طريق برى وعلى أرض صلبة، لكن المصباح الهادى فى بحر لجى وأمواج متلاطمة تعيق الرؤية وتحجب البصيرة، تصبح المرأة للرجل حالة نادرة، إنقاذ من ضلال وشتاتها، ترسل إشارات فى عتمة الليل وغيوم الأنواء إلى الوجهة الصحيحة.
مصباح منير، نار مشتعلة على رأس علامة فى البر والبحر يسمى ببلاد النوبة «الشمندورة». هى واحدة من أشهر رواياتها، كتبت فى ستينيات القرن العشرين لتعرض بانوراما ما شهدته هذه الأرض وأهلها منذ عام 1900 قبل تشييد الخزان وغمر الأرض والزرع والبيوت والنخيل. فى هذه الرواية تعد الشمندورة فى النيل علامة مهمة للغاية. النيل قبل 120 سنة زمن الرواية لم يكن ذلك النهر الذى تم ترويضه فى شكل قناة هادئة وديعة. لأهلنا فى النوبة كان النيل وقت الفيضان «بحرا» بمعنى الكلمة، بحرا متلاطم الأمواج يعج بالتماسيح، وتنتشر به صخور مختبئة بوسعها أن تحطم السفن والقوارب إن لم تكن هناك «شمندورة» تحدد المسيرة والطريق الصواب إلى القرى والبلدات على ضفاف النيل.
جاءت كلمة الشمندورة أيضا فى أغنية شهيرة راقصة متماوجة لمحمد منير فى حب فتاة نوبية، يناديها شوقا وولها باسم الشمندورة. فى هذه الأغنية مجهولة المؤلف ينادى الشاعر حبيبته بأن تتمهل قليلا على الشاطئ كى ينزل على مسامعها غناويه الساحرة، واحدة عن الشوق والحنين، والأخرى عن عينيها الجميلتين.
تقابل «الشمندورة» فى كل لغات العالم مفردات متعددة. والشمندورة أو (الفنار) اسم معروف منذ أقدم الحضارات. ولأننا كنا حضارة بر وزرع وفيضان فى مصر القديمة فإننا عرفنا الشمندورة (الفنار) مع تأسيس الإسكندر لمدينة على البحر المتوسط تحمل اسمه وتحل بدلا من منطقة عمرانية مصرية قديمة، فى منطقة لم تكن تخلو من آثار لقدماء المصريين خاصة فى منطقة بحيرة «ماريا» التى نسميها اليوم «مريوط» بفضل التحريف اليونانى.
البطالمة أهل بحر وأسطول وليسوا مثلنا أهل زرع ونخل، أول ما يعنيهم فى الإسكندرية إنشاء فنار يهدى السفن فى البحر إلى الميناء الجديد، هكذا اختاروا جزيرة أمام الشاطئ نسميها اليوم جزيرة «فاروس».
طالبا فى الجامعة قبل ثلاثين سنة، يحاصرنى اسم فاروس فى لغز دائم، صرت أتخبط حول السؤال:
هل سميت الجزيرة «فاروس» أمام الإسكندرية على اسم الفنار أم سمى الفنار على اسم الجزيرة؟ وقبل هذا كله وبكل بساطة ودون مواربة: ماذا تعنى «فاروس»؟
لن أفهم الإجابة بشكل كامل سوى فى رحلة إلى فرنسا قبل أكثر من عشر سنوات. كنت قد اشتركت مع زميل فرنسى و20 من طلابه بمرحلة الليسانس فى عمل لمدة أسبوع بجزيرة فرنسية جوار ميناء «برست» وهو ميناء وقلعة حصينة على المحيط الأطلنطى. الجزيرة التى كنا نعمل بها اسمها «ويسانت» وقد كتبت عنها بعد عودتى أحد بحوثى للترقية لدرجة بروفيسور. تتألف هذه الجزيرة من صخور الجرانيت والشست ولا يسكنها سوى ألف أو ألفين من البشر وهى موطن تاريخى للسكان الأصليين من شعب «البريتون». وهم مصدر الاسم لكمة «بريتانيا» فى شبه جزيرة «بريتانى» بين فرنسا والجزر الـ«بريطان»ية.
فى نهاية الأسبوع وقبل مغادرة ويسانت إلى بقية الأراضى الفرنسية حاولت أن أشترى هدية وتذكارا فلم أجد فى الجزيرة أفضل من كتالوج مصور ملون يحمل عنوان «فنارات ويسانت». ولا عجب؛ فالجزيرة محاطة بعشرات الجزر الصخرية الصغيرة التى تتحطم السفن عندها إن لم يكن يعرف الملاحون الطريق الهادى المنقذ من الضلال والغرق. ولأن كثيرا من هذه الفنارات لم يعد مستعملا بعد تطور تقنيات الملاحة الحديثة، وبعد تراجع الأهمية العسكرية لقلعة وميناء برست القريب، فقد أصبحت الفنارات معالم أثرية وسياحية وطليت بألوان العلم الفرنسى بمختلف تدرجاته «الأبيض، الأزرق السماوى، والأحمر».
يحمل الكتاب الذى اشتريته تذكارا عنوان « Les phares et navigation à Ouessant». استوقفتنى الكلمة الأولى «phares» وهذه كلمة فرنسية من أصل لاتينى: «فاروس pharus »، المشتق بدوره من الأصل الإغريقى «فاروس pharos».
ها هو حل اللغز، الجزيرة التى أمام الإسكندرية تعنى جزيرة الفنار من الأصل اليونانى الذى أطلقه خلفاء الإسكندر على هذه الجزيرة التى لا نعرف ماذا كانت تسمى فى عهد الدولة المصرية القديمة التى كانت لها مواقع حاضرة قبل غزو الإسكندر. «الشمندورة» إذن تحظى بميراث عريق بمختلف اللغات التى تقابل معنى الكلمة فى النوبة، صحيح أن النوبة لم تكن أرض ملاحة بحرية لكن نهر النيل كان بحرا قبل السد، وما زال الناس فى الصعيد والنوبة يعرفون النيل باسم «بحر النيل» وليس «نهر النيل». «ثلاث سنوات فى صحراء ليبيا» عن حياة بدو «أولاد على فى مصر وليبيا». الكتاب دونه مؤلف ألمانى قبل نحو 110 سنة، لا أعرف الألمانية بعد، ومن ثم استعنت بالترجمة الإنجليزية ونقلت منها الكتاب إلى العربية بمشاركة تلميذتى النجيبة أمانى فايز. المؤلف الألمانى نقل من أولاد على أغنية يهيم فيها أحد الرجال شوقا بامرأة يحبها فيقول: «حبك زى المنارة اللى نورها يضوى المدى،
زى النبع اللى تشوفه العين فى الصحرا ويجلب مطر،
زى نهر فياض ما ينجو منه سباح،
زى النار اللى تأكل كل شى،
نشفت ينابيع الحب من زمان،
وما عادت تجرى فيها مى»، أى منارة يفتتح بها الشاعر أغنيته فى صحراء مصر الغربية؟ هل يقصد الشاعر منارة (فنارة) الإسكندرية غير البعيدة عن مريوط؟ أم يقصد أطلال منارات كانت فى العصرين اليونانى الرومانى فوق تلال «أبو صير الصغرى» و«أبو صير الكبرى»؟
أما الوصف الذى استهل به الشاعر البدوى قصيدته «حبك زى المنارة اللى نورها يضوى المدى». ها هى المرأة مجددا تصبح عند الشاعر البدوى مصباحا هاديا، نورها يعلو على أى وصف صريح أو عفيف.
أما الذاكرة عجيبة، يطفو على سطحها فيى ومضة لافتة، أستاذنا الدكتور محمد رياض وزوجته الدكتورة كوثر عبدالرسول، رواد علم الجغرافيا بجامعة عين شمس.
يذهبان فى ستينيات القرن العشرين؛ ليجمعا التراث الثقافى للنوبة، وحتى ساعدهم أحد أبناء النوبة فى نقل مطلع أغنية شهيرة غلى شاطئ العربية قائلين معا، الولد والأستاذين، والأغنية: «يا فاطمة.. يا فاطمة حبك زى الشعلة؟!» وبين هذا وذاك، يعلو صوت سؤال عن هذه الأضواء والمنارات والفنارات التى تجمع العاشقين والمحبين والملاحين؟ وما هذا المشترك بين النوبة وفاروس الإسكندرية وفنارات جزيرة ويسانت فى فرنسا بل ومنارة المحب العاشق فى صحراء أولاد على؟