نقاطع أو لا نقاطع.. تلك هى المسألة
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 6 نوفمبر 2023 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
نعيش اليوم فى عالم شديد التشابك، الجهاز الذى أكتب عليه تلك الكلمات يحمل علامة أمريكية لشركة متعددة الجنسيات، يملكها ملايين من حملة الأسهم العرب والأجانب. مدخلات الجهاز من المعادن النادرة والرقائق جاءت غالبا من الصين، وتم تحويل تلك المعادن بماكينات أوروبية فى هولندا غالبا، ثم تم التجميع النهائى للجهاز فى إحدى دول آسيا رخيصة العمالة، وتم التسويق عبر شركات أيضا متعددة الجنسيات، سواء من حيث هياكل ملكيتها أو مقار أنشطتها.. المستهلكون من كل أنحاء العالم يضيفون قيمة كبيرة لهذا الجهاز عبر استخدامه فى التحليل والكتابة (كما أفعل الآن)، وفى التواصل البشرى المحقق لأهداف اقتصادية لا قبل لى بحصر منافعها.. من يدرى من الرابح الأكبر أو الخاسر الأكبر من توقف هذا الجهاز عن الصنع؟! الحسبة شديدة التعقيد والغموض.
• • •
الدعوات المنتشرة اليوم فى فضائنا الإلكترونى (غربى الصنع) للمنتجات والعلامات التجارية (غربية المنشأ) هى صرخة مكتومة، تريد بها الشعوب الحرة ذات الضمير اليقظ أن تخرج من دائرة العجز أمام المجازر الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، إلى حيز أكثر رحابة، تنفس فيه بعضا من غضبها، وتخدر شيئا من آلام الضمير الذى أنهكته صور العدوان الوحشى على الأطفال والأبرياء.. لكن تلك الدعوات، شأن كل عمل نبيل، يلقى الشيطان فيها من خبث الأغراض الدنيوية. من الناس من ركب «ترند» المقاطعة بغرض الفوز فى حروب تجارية مستعرة بينهم وبين منافسيهم فى الأسواق المصرية، لا علاقة لها بحرب أو دماء. ولعل هذا الصنف من الناس هو الذى يجب أن يثير الشك لديك قبل مساعدتهم فى نشر الأكاذيب التى ينفثونها عبر وسائل التواصل ليل نهار. من هؤلاء من أشاع تحقيق الشركات العالمية المدرجة فى قوائم المقاطعة خسائر عظيمة فى أسعار الأسهم، وذلك ليس له أى أساس من الصحة، ويمكن التثبت منه فورا عبر محركات البحث بضغطة واحدة!
لكن تلك الأكاذيب هى مجرد تجلٍ واحد لظاهرة المقاطعة التجارية، وليست مناط اهتمامى فى هذا المقال. سأحاول خلال الأسطر القادمة أن أقدم للقراء تصورا بسيطا لمختلف جوانب مسألة المقاطعة لمنتجات الدول، التى تتهم بضلوعها وتورطها فى جرائم إسرائيل، وفى غير ذلك من اتهامات التطاول على المقدسات واضطهاد المسلمين أو العرب.
أولا: فيما يتعلق بالبضائع الأجنبية، هناك بضائع مستوردة تامة الصنع تلتهم جانبا كبيرا من الدخل القومى وتمتاز بكونها ترفيها يمكن الاستغناء عنه تماما، أو لها بديل محلى يؤدى ذات الغرض ولو بمستوى إشباع أقل.. هذه الفئة من البضائع يفضل مقاطعتها، بغرض عدم إهدار العملة الصعبة، والحد من العجز الخارجى فى ميزان التجارة، وتقليل الحاجة إلى الاقتراض لسد ذلك العجز.. المقاطعة هنا تحقق الغاية الاقتصادية المثلى من ناحية، وتلتقى وفوراتها الإيجابية مع أى أغراض أخرى ذات طبيعة عاطفية أو إنسانية.
وهناك بضائع نصف مصنعة أو مدخلات إنتاج مستوردة يتم تصنيعها محليا، وتكتسب قيمة مضافة، وتساعد فى تشغيل العمالة ورءوس الأموال واستغلال الأراضى بصورة اقتصادية، تساهم فى إنعاش الاقتصاد الوطنى كله.. تلك الفئة لا يمكن مقاطعتها حتى وإن زادت نسبتها كمكون أجنبى مستورد (من دولة مغضوب عليها) فى منتج محلى بعلامة تجارية وطنية مائة فى المائة! وهذه الفئة لن يستطيع المستهلك العادى تمييزها.
وإلى هذه الفئة الأخيرة يمكن إضافة الماكينات والمعدات وخطوط الإنتاج التى تستخدم فى الإنتاج المحلى. تلك الآلات أيضا لا يمكن اقتفاء منشأها على نحو دقيق أو اقتفاء المستفيد النهائى من تسويقها. قد تكون خطوط إنتاج «صينية» مثلا، لكن الشركة يمتلكها مستثمرون أوروبيون أو أمريكيون بنسبة كبيرة.. أو يحصل حاملو تلك الجنسيات بطريقة ما على جانب من أرباح هذه الشركة، فى صورة مبيعات أو خدمات للجانب الصينى… هل لاحظت التشابك؟
تخيل معى أن الدول التى قررت أنت مقاطعتها فى سلع بعينها أمكنك الاستغناء عنها، اتخذت قرارا بمقاطعتك وعدم إمدادك بالسلع الرأسمالية المطلوبة فى التصنيع والتنمية، فكلما كان قرارك مؤلما للطرف الآخر (وهذا ما تصبو إليه بالتأكيد) كلما كان من المنطقى توقع رد فعل مضاد.
كذلك هناك منتجات تحمل علامة تجارية غربية، ولكنها تمثل استثمارا أجنبيا مباشرا فى مصر، أو وكالة عبر نظام «فرانشايز» لعلامة تجارية، لمسوق أو موزع أو مشغل محلى… هذه الفئة تعمل تعقيدات أكبر، نظرا لكونها تحقق منفعة اقتصادية كبيرة ومطلوبة لو أنها استثمارات أجنبية مباشرة، فى وقت انخفض فيه الادخار المحلى إلى ما دون ٦٪ بينما نحن فى حاجة إلى استثمارات لا تقل عن ١٥٪ من الناتج المحلى الإجمالى، لتحقيق معدل نمو اقتصادى مستدام فوق ٦٪ أو ٧٪ سنويا.. الاستثمار المباشر يعنى تدفقات رءوس أموال (غير ساخنة) تستقر فى الدولة، وتشغل العمالة، وتستخدم الموارد المحلية قدر المستطاع، لتخفيض تكاليفها، وتعيد استثمار جانب من أرباحها داخل البلد كلما كان مناخ الاستثمار مواتيا.. مقاطعة هذا الاستثمار هو بمثابة دعوة صريحة لإخراجه من البلاد.
أما مستأجرو العلامة التجارية، والذين يدفعون مقابلا لاستخدامها للشركات الأم.. فهؤلاء فى الغالب مواطنون مصريون، يعملون وفقا لنظم مصرية، ويساهمون فى حل أزمة البطالة، ويلبون جانبا من طلبات المستهلك المحلى من منتجات لا يمكن أن يجدها إلا لو تحمل مشقة وتكاليف السفر إلى الخارج… وبعيدا عن تفاصيل حجم ونسبة ما تحصل عليه الشركات الأم مقابل استخدام الاسم التجارى والعلامة، وبعيدا عن هيكل ملكية تلك الشركات الذى لا يخلو من العرب والمسلمين.. فإن الكائن الاقتصادى الرشيد، عليه أن يوازن بين حجم الضرر وحجم المكسب من أى قرار اقتصادى.. فلو أن الضرر المقصود تحقيقه عند الشركة الأم أقل كثيرا من ضرر الاقتصاد المحلى، فمن العبث إذن الإقدام على استخدام سلاح المقاطعة لإلحاق مزيد من الضرر بالسوق المحلية والاقتصاد المصرى المتأزم بالفعل، والمكبل بالديون الخارجية المستحقة للدائنين من الغرب والشرق.
ثانيا: فيما يتعلق بالمنتجات البديلة للبضائع والماكينات المستوردة.. تشجيع المنتج الوطنى مسألة مهمة ومفيدة، ولكن أنى لك أيها المقاطع تحديد أكثر المنتجات نفعا للاقتصاد من حيث القيمة المضافة والتشغيل وسداد الضرائب وتخفيض فاتورة الاستيراد.. إلى غير ذلك من مزايا؟ ماذا لو أن القيمة المضافة المحلية الوحيدة لهذا المنتج البديل هى ٥٪ فقط؟ ماذا لو أنه يملك علامة تجارية مصرية، لكنه حريص على شراء كل مستلزمات الإنتاج من دولة مدرجة فى قوائم المقاطعة؟ ماذا لو أن الجانب الأكبر من أرباحه يتم تحويله بانتظام لشراء عقارات فى الخارج أو الحصول على جنسية أوروبية؟!
لا أقول هذا للطعن فى المنتج الوطنى، فمن يعرفنى جيدا يعرف تقديرى وحماسى للصناعة الوطنية. لكن حملات المقاطعة ذات الصيغة الشعبوية تخلو من حسابات المكسب والخسارة والمنطق الاقتصادى، فوجب إثارة تلك الأسئلة لاستفزاز الحس النقدى لدى المستهلك، لاتخاذ قراره بدرجة أقل من اليقين، ولعدم تحميل هذا القرار بأكثر مما يحتمل، ولعدم تسويغ طعنه فى قرارات واختيارات غير المقاطعين.
• • •
سلاح المقاطعة عبر التاريخ له حدان.. وعادة ما يصاب الطرف الأضعف والأقل استقلالا بالحد الأكثر إيلاما والأشد نصلا.. كلنا يعلم أهمية ما عرف بسلاح البترول عام ١٩٧٣ والذى استخدمته الدول النفطية الشقيقة لمساندة مصر وسائر جبهات المواجهة العربية ضد إسرائيل، من خلال الضغط على الولايات المتحدة والغرب بصورة من صور المقاطعة المستغلة لمورد هام جدا لاحتياجات النمو الاقتصادى العالمى وهو النفط… هذا المنع العربى ــ المقدر والمفيد سياسيا ــ كانت آثاره الاقتصادية متوسطة وبعيدة المدى تحمل للطرف الأضعف من الدول النامية غير النفطية (ومنها مصر ودول أمريكا اللاتينية) أنباء التضخم والتباطؤ الاقتصادى والتوسع فى اقتراض الأموال الرخيصة، الناتجة عن الفوائض النفطية، ثم نتائج التعثر وانفجار سلسلة لا تتوقف حتى اليوم من صدمات الديون الخارجية.. الصدمة البترولية الأولى إذن، فضلا عن كون سلاحها غير قابل للاستخدام مرة أخرى بعدما تم التحوط ضده بإحكام، كانت ومازالت سيئة الأثر على تدفقات رءوس الأموال، إذ استطاع الغرب «المعاقب» عبر تنوع وصلابة اقتصاداته أن يعيدها إليه فى صورة إيرادات مبيعات سلعية وخدمية، وفوائد قروض وأدوات دين متنوعة وعوائد استثمارات، حتى أن البعض يتندرون بالقول بأن برميل المياه الغازية التى ينتجها الغرب أغلى ثمنا من برميل النفط الذى ينتجه العرب!
أعرف أن التوصيف السابق صادم، لكن الواقع صادم أيضا، وتضليل المستهلك عبر إيهامه بالسيطرة والقوة الجبارة لن يستفيد منه أحد سوى الطرف الأقوى اقتصاديا، القادر على تحميل الضعيف بسائر فواتير الحرب.. وكذلك يخبرنا التاريخ..
الحل إذن هو المسار الصعب الطويل والمجهد، الرامى إلى استقلال الاقتصاد من التبعية للخارج التى تتمثل فى الاستيراد والاقتراض.. وهذا لا يتم عبر حملات للانفصال عن العالم، وتعطيش السوق من تدفقات رءوس الأموال الأجنبية بصورة صادمة، ولا بمعاقبة (أو توهم معاقبة) شعوب كاملة بأخطاء قياداتها، على الرغم من إبداء تلك الشعوب لدرجة من التعاطف مع القضية الفلسطينية، تفوق الكثير من ديار الإسلام.. ولكن استقلال ومتانة الاقتصاد تتم باستراتيچيات وخطط ومثابرة وعزم أكيد.. أما المنتجات التى تنتمى للفئة الأولى المذكورة آنفا، فقاطعها وأنت المستفيد، لأنها فضلا عن إضرارها بالاقتصاد الكلى، غالبا ما تكون ضارة بصحتك وميزانيتك الخاصة.