نداء النيل فى موكب المومياوات!
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 7 أبريل 2021 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
لم يكن نقل (22) مومياء ملكية مصرية قديمة من «متحف التحرير» فى قلب القاهرة إلى «متحف الحضارة» فى منطقة الفسطاط حدثا اعتياديا، فهو فريد فى نوعه، لا مثيل له فى أى مكان آخر بالعالم، استدعى الحضارة المصرية القديمة، التى نشأت على ضفاف النيل، إلى واجهة التحديات الماثلة، التى تتهدد البلد فى صميم وجوده.
فى مشهد واحد تزاوجت مشاعر «الفخر» للانتماء إلى أعرق الحضارات الإنسانية، التى ألهمت «فجر الضمير»، مع «قلق» الترقب لما قد تتطور إليه الحوادث فى حرب المياه المحتملة.
ترددت فى الفضاء العام عبارة الزعيم الوطنى «مصطفى كامل»، التى أطلقها مطلع القرن العشرين: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا».
كان ذلك داعيا للثقة بالنفس عند لحظة مصيرية.
لم يختلف اثنان على المستوى الرفيع، الذى بدا عليه الحفل الفنى، وقدر الانضباط فى نقل المومياوات بأمان إلى مستقرها الجديد.
كان الاتقان عنوانا رئيسيا لافتا فى جميع التفاصيل.
بدا الحفل الفنى مبهرا لعامة المصريين، كما للعالم كله، الذى تابعه متأثرا بمعارفه المتراكمة عن الحضارة المصرية القديمة.
موكب الملوك والملكات العظام، فى عربات صممت خصيصا لحفظ المومياوات من أية أضرار محتملة، كان الحدث الأهم فى ذلك اليوم، بدا كما لو أن التاريخ نفسه يتحرك ماثلا أمام العيون.
هكذا طرح سؤال بديهى على الفضاء العام: إذا كان ممكنا أن تؤدى المهام العامة بذلك القدر من الاتقان، فلماذا تعانى الملفات الأخرى، التى تدخل فى صميم الحياة اليومية، كالصحة والتعليم والمواصلات، مما نراه ماثلا أمامنا من مستويات غير لائقة؟
السؤال البديهى إعادة صياغة لسؤال قديم: لماذا يتفوق المصرى فى الخارج فيما الإحباط يضرب طاقة إبداعه فى بلده؟
بدت الإجابات شبه موحدة: غياب القواعد والنظم الحديثة وتغليب أهل الثقة على أهل الخبرة.
هذه المرة أسندت المهمة إلى أهل الاختصاص، وجرت الاختيارات على أساس الكفاءة وحدها، فكانت النتائج مبهرة.
إنشاء «متحف الحضارة»، الذى يؤرخ أثريا لتاريخ الحضارات التى تعاقبت على مصر، هو بذاته إنجاز كبير، وإذا ما أردف بـ«المتحف المصرى الكبير»، الذى سوف يفتتح قريبا، فإننا أمام نقلة نوعية فى عرض وحفظ الآثار المصرية، التى تعرضت لسوء التخزين، أو السرقة على مدى عقود طويلة.
تبدى طويلا وكثيرا سؤال شبه مكتوم: هل الأفضل أن تظل الآثار المصرية هنا حيث تهمل وتتلف، أم أن تعرض فى المتاحف الدولية بالعواصم الكبرى مهما كان تحفظنا واعتراضنا على الطريقة التى وصلت بها؟
بعد افتتاح المتحف المصرى الكبير لن يكون هناك موضع لمثل هذا السؤال.
ما تكلفة الحدث الاحتفالى، جدواه وحدود استثماره فى تنشيط السياحة؟
كان ذلك سؤالا لم يجد إجابة عليه توضح وتكشف الحقيقة بالأرقام المدققة، وما إذا كانت الموازنة العامة المنهكة تتحمل إضافة أعباء جديدة تسحب من رصيد ملفات لها ضروراتها الملحة دون أى إرجاء، أو خفض.
غابت المعلومات وتكفلت وسائل الإعلام الدولية بطرح ما توافر لديها من معلومات، أو استنتاجات.
الشفافية من مقومات استكمال نجاح احتفالية نقل المومياوات الملكية.
رفع منسوب الروح المعنوية العامة فى لحظة تحد مكسب حقيقى، ولفت انتباه العالم إلى إرث الحضارة المصرية القديمة على شواطئ النيل، التى تكاد تنفجر حولها حربا تهدد الأمن والسلم الدوليين تهز بالعمق استراتيجية البحر الأحمر مكسب حقيقى ثان.
فى اليوم التالى جرت مفاوضات فى كينشاسا وصفت بأنها «الفرصة الأخيرة» انتهت إلى إعلان إخفاق أية فرصة للتوصل إلى اتفاق عادل وملزم لأزمة «سد النهضة» الإثيوبى.
ما كادت أضواء الاحتفالات تخفت على ضفاف النيل فى القاهرة حتى تبدت تساؤلات من نوع آخر حول ما الخطوة التالية بعد عشر سنوات من مفاوضات تراوح مكانها دون تقدم حقيقى؟
كان استهلاك الوقت مقصودا وممنهجا بقصد السيطرة على مياه نهر النيل بمفردها، تحدد الحصص وتبيع المياه مستندة فى عجرفتها على شبكة مصالح إقليمية ودولية واسعة تحرض على مصر.
لم يكن موفقا أن يصف بيان الخارجية المصرية الموقف الإثيوبى بأنه يفتقد إلى الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق، الحقيقة أن إرادتها السياسية منعقدة على ما وصلت إليه المفاوضات المجهضة، أن تفرض الأمر الواقع على دولى المصب السودان ومصر، دون اعتبار للقانون الدولى، ولا لاتفاقية (2015)، التى استخدمتها لإضفاء شرعية على بناء السد، دون أن تلتزم بأى نصوص تحفظ لدولتى المصب حقوقهما.
طوال عشر سنوات كلما بدا أن هناك اتفاقا محتملا بشأن القضايا الخلافية المعلقة بنسبة (90%)، كما كان يقال، تعود المفاوضات إلى نقطة الصفر من جديد.
كان استهلاك الوقت استراتيجية مقصودة حتى استكمال بناء السد وتعبئته بالمياه.
حانت لحظة مواجهة الحقيقة.
احتمالات الحرب غير مستبعدة، لا أحد يريدها لكنها قد تفرض سيناريوهاتها الاضطرارية أمام التعنت الإثيوبى المفرط.
فى جولة «كينشاسا» رفضت «أديس أبابا» اقتراح وساطة رباعية دولية لحلحلة أزمة التفاوض تشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقى، وسطاء لا مراقبين، وهو الاقتراح الذى تقدمت به السودان وأيدته مصر، بزعم أن التدويل ينتقص من الاتحاد الأفريقى وولايته على الأزمات فى القارة، فيما هى لم تلتزم بأى اتفاقات وقعتها إلا فى حدود ما يخدم مشروعها للمضى قدما للسيطرة على النيل، كما لو كان بحيرة أثيوبية بالمخالفة للقانون الدولى للأنهار العابرة للدول.
الأخطر أنها أعلنت عزمها على الملء الثانى للسد فى يوليو المقبل، مع موسم الأمطار الجديد.
إذا ما جرى الملء الثانى يستحيل أى عمل عسكرى، إذ إن انهيار السد يفضى إلى غرق مساحات واسعة من السودان.
العمل العسكرى ليس سهلا ولا تبعاته هينة، لكنه قد يكون اضطراريا، فإذا لم تكن القوى الكبرى مستعدة أن تتحمل مسئولياتها فى مجلس الأمن فإن العواقب سوف تطولها.
أمام تحديات الموت عطشا والحياة بكرامة تجد مصر نفسها أمام تحد وجودى على شواطئ النيل، فـ«يا روح ما بعدك روح» – كما تقول الثقافة الشعبية المصرية.
إذا ما أردنا أن ننظر فى أوراق القوة التى تحوزها مصر فإن أولها وأهمها: مصر نفسها موقعا وتاريخا ودورا.
فى احتفال نقل المومياوات تذكرة بمهد الحضارة الإنسانية عند لحظة صدام محتمل.
هكذا دوى نداء النيل فى المكان بعد أن انفض الاحتفال، أن نكون أو لا نكون.