الخيارات المتبقية فى أزمة سد النهضة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 8 مارس 2020 - 11:40 م
بتوقيت القاهرة
على مدى أكثر من خمس سنوات استهلكت المفاوضات وسائلها ومواقيتها وأية جدية مفترضة فيها.
يكاد أسلوب التفاوض الإثيوبى فى أزمة سد النهضة أن يستنسخ الأسلوب الإسرائيلى فى استهلاك الوقت والتنصل من أية التزامات موقعة مع الفلسطينيين وصنع الأمر الواقع على الأرض، بغض النظر عن قواعد القانون الدولى.
كلما أوشكت المفاوضات أن تصل إلى اتفاق أخير عادت إلى المربع الأول، كأنه لم تكن هناك اجتماعات مطولة انتقلت بين أديس أبابا والقاهرة والخرطوم، أو اتفاقات موقعة يحتكم إليها فى مناقشة التفاصيل الفنية.
لا يشك عاقل واحد أن التعسف مقصود والمماطلة متعمدة حتى توضع مصر أمام الأمر الواقع عند البدء فى ملء وتشغيل سد النهضة.
هناك ما ينذر الآن بتفاقم الأزمة إلى حرب مياه معلنة تستخدم فيها كل الوسائل وتشرع كل الأسلحة.
التصعيد وصل مداه بامتناع إثيوبيا عن حضور الجلسة الأخيرة فى واشنطن للتوقيع على اتفاقية صاغها الوسيط الأمريكى برفقة البنك الدولى بعد سلسلة من الاجتماعات الفنية التفصيلية عن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.
قالت إنها فى حاجة للتشاور الداخلى، غير أنها أعلنت بالوقت نفسه أنها سوف تبدأ ملء خزان السد بعد أربعة أشهر من الآن دون اتفاق فـ«الأرض أرضنا، والمياه مياهنا، والمال الذى يبنى به السد مالنا، ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه«ــ هكذا بالحرف فى مؤتمر صحافى عالمى لوزيرى الخارجية والرى.
وفق اتفاقية إعلان المبادئ، التى وقع عليها فى الخرطوم قادة الدول الثلاث مصر وإثيوبيا والسودان عام (2015)، فإن مادته الخامسة تنص على «ضرورة الاتفاق على قواعد ملء السد وتشغيله قبل البدء فى عملية الملء».
استفادت إثيوبيا من التوقيع المصرى على تلك الاتفاقية لإضفاء مشروعية دولية على بناء السد وتمويله ورفع الحرج عن دول عديدة خشت من عواقب مساعدتها دون أن تلتزم بما وقعت عليه.
لا أبدت أدنى التزام بمبادئ القانون الدولى فى الاستخدام العادل والمنصف لمياه الأنهار الدولية وعدم التسبب فى ضرر جسيم لأية دولة مشاطئة.
ولا احترمت أن النيل نهر دولى وليس إثيوبيا يمكنها التحكم فيه وحدها وإخضاع الدول الأخرى إلى إرادتها المنفردة.
رغم أن المادة العاشرة من اتفاق المبادئ ينص على اللجوء إلى طرف دولى ثالث يساعد فى التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يحفظ للدول الثلاث حقوقها دون افتئات على مصالح أى منها، وأنها وافقت على التوسط الأمريكى، إلا أنها تملصت من نتائج مفاوضات واشنطن التى استغرقت مدى طويلا نسبيا.
بدا لافتا فى مفاوضات واشنطن قدر التباين داخل إدارة الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» بشأن أزمة سد النهضة بين وزير الخزانة «ستيفن منوشين» ووزير الخارجية «مايك بومبيو».
الأول، الذى مثل الولايات المتحدة فى المفاوضات، يركز على «ضرورة تطبيق معايير السلامة الدولية قبل بدء ملء السد» وأهمية التوصل إلى اتفاق يحمى دولتى المصب مصر والسودان من أى أخطار جسيمة، وهو قد دعا إثيوبيا والسودان للتوقيع على الاتفاق الذى جرت صياغته بمساعدة البنك الدولى أسوة بالتوقيع المصرى عليه بالأحرف الأولى.
والثانى، الذى يدير ملف السياسة الخارجية الأمريكية، لم يبد ذات الحماس للتوصل إلى اتفاق يستبق ملء وتشغيل السد، صرح بأن المفاوضات قد تستغرق أشهرا قبل الموعد المحدد للتوقيع على الاتفاق الذى غابت عنه إثيوبيا، كأنه دعم وتشجيع مسبق على عرقلته.
ارتبكت الإدارة الأمريكية فى أزمة سد النهضة بين سعى رئيسها لاكتساب صفة «رجل السلام» القادر على حلحلة الأزمات الدولية المستعصية فى عام الانتخابات الأمريكية وبين حيرتها فى إدارة مصالحها الاستراتيجية مع مصر وإثيوبيا دون أن تغضب إحداهما.
هكذا تنصلت إثيوبيا من التوقيع، اتهمت الولايات المتحدة بالانحياز ومصر بالتعنت، لكنها لم تتوقف كالعادة عن إعلان استعدادها للتفاوض «من أجل طمأنة مصر والسودان من أنه لا أخطار هناك»، فيما تبدو ماثلة كتهديد وجودى يؤدى فى بلد مثل مصر إلى تبوير مليون فدان من الأراضى الزراعية وتشريد زهاء خمسة ملايين فلاح مصرى وتقليل قدرتها على إنتاج الطاقة الكهربائية وإصابتها بالعجز الفادح عن توفير احتياجاتها الغذائية.
هذه كلها مسائل وجودية تنذر بحروب مياه معلنة.
الأزمة سياسية لا فنية والحل سياسى لا فنى.
الحجة الرئيسية لإثيوبيا، وهى صحيحة ومشروعة، أن التنمية والكهرباء من حق مواطنيها، غير أنها لا تبرر خرق القوانين الدولية والتغول على حقوق الآخرين وتهديد وجودهم الإنسانى نفسه.
هناك توظيف سياسى داخلى لأزمة سد النهضة قبل الانتخابات المنتظرة فى إثيوبيا باعتباره موضوع تماسك وطنى فى بلد مفكك تتهدده الاحترابات الأهلية وانقلابات السلطة، وهناك تحريض سياسى خارجى لا يمكن استبعاده لإضعاف مصر ووضعها تحت الضغط الوجودى حتى لا ترفع رأسها مرة أخرى.
بأية قراءة على سطح الحوادث فإن إثيوبيا فى موضع قوة تستنزف الوقت وتصنع الحقائق على الأرض، ومصر فى موقف ضعف تتقلص فيه خياراتها المتاحة.
هذه قراءة تحتاج إلى مراجعة، فأقوى ورقة تملكها مصر هى مصر نفسها موقعا جغرافيا واستراتيجيا وحضاريا يصعب أن يتحمل العالم عواقب تعريضه لمخاطر وجودية جسيمة.
إنه زلزال حقيقى فى الإقليم يضرب الأمن والسلم الدولى بأكثر من أى توقع.
لا مصر دولة هامشية مهما تكالبت عليها المخاطر ولا إثيوبيا تملك مقومات المواجهة باتساع نطاقها مهما تصورت لنفسها من أوهام القوة.
السيناريوهات كلها مفتوحة، لا يمكن استبعاد سيناريو واحد فى أزمة حياة أو موت، التصعيد السياسى والدبلوماسى مطروح بقوة، وكان آخره سحب السفير الإثيوبى بالقاهرة ودول أخرى للتشاور، بعد القرار الذى أصدره وزراء الخارجية العرب برفض المس بحقوق مصر فى مياه النيل واعتبار الأمن المائى لها جزءا لا يتجزأ من الأمن القومى العربى.
رغم رمزية القرار، وعدم الاعتداد التقليدى بما يصدر عن الجامعة العربية من قرارات، إلا أن إثيوبيا اهتزت لمجرد أن هناك موقفا عربيا يمكن أن يتخذ ومواجهات يمكن أن تتسع.
أسوأ ما فى المشهد أن السودان تحفظت على القرار العربى، طلبت عدم ذكر اسمها فى متنه، بدت فيما يشبه الإعلان الرسمى على الجانب الآخر تماما.
هناك مشكلة لابد من الاعتراف بها والعمل على تجاوزها، أن يدرك السودانيون أن مثل هذه المواقف بالغة السلبية تفضى إلى قطع أية أواصر بين الشعبين يصعب تدارك أخطاره فى أى مدى على سلامة السودان نفسه.
هذا لعب بالنار وبالتاريخ وبالثقافة المشتركة ووحدة المصير، استهتار بكل معنى أيا كانت التبريرات.
الذهاب إلى مجلس الأمن خيار ضرورى آخر لإثبات الحق المصرى وفق قواعد القانون الدولى ونصوص الاتفاقيات الموقعة فى مسألة حياة أو موت قد تفضى إلى حرب مياه عسكرية إذا ما ضاقت السبل الدبلوماسية.
تحتاج مصر أن تثق فى نفسها، أن تصحح من أوضاعها الداخلية لبناء كتلة صلبة أمام أية أخطار وجودية محتملة، أن تبادر وتتحرك فى محيطها العربى والإفريقى ومع الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن، أن ترفع صوتها بثقة أصحاب الحقوق الأقوياء لا الملتاعين من التغول عليهم.