الترامبية المأزومة: الأصل والصورة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 11 نوفمبر 2018 - 11:15 م
بتوقيت القاهرة
كانت «نصف الهزيمة» التى لحقت بالرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فى الانتخابات النصفية لمجلسى الكونجرس، تعبيرا عن قدرة الآليات الديمقراطية على إثبات فاعليتها فى مواجهة الشعبوية الجامحة.
بالوسائل الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع تبدت قوة الرفض فى المجتمع الأمريكى لخطاب التحريض ضد المهاجرين والتمييز العنصرى، على أسس عرقية ودينية والاستهانة بقضايا المرأة والسخرية من الحريات الصحافية والإعلامية.
لم يكن ممكنا أن يسيطر الحزب الديمقراطى على مجلس النواب دون المساندة الكبيرة التى حازها من كبريات الصحف والفضائيات ومؤسسات المجتمع المدنى والأقليات السوداء واللاتينية والمسلمة وجماعات المرأة والشباب.
حركة المجتمع قبل أى شىء آخر وضعت «ترامب» فى حالة أفول نسبى قبل الانتخابات الرئاسية المقررة عام (2020).
رغم حفاظ الجمهوريين على أغلبيتهم فى مجلس الشيوخ، فإن سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب سوف تكون لها تداعياتها فى إرباك أجندة البيت الأبيض التشريعية وإخضاع الرئيس للمساءلة، فيما هو منسوب إليه من اتهامات قد تفضى إلى عزله.
من المفارقات السياسية أن ذلك الأفول النسبى للرئيس الأمريكى عند منتصف ولايته سبقه مباشرة صعود مثير لـ«جايير بولسونارو» رئيسا لأكبر دولة فى أمريكا اللاتينية، الذى يوصف فى وسائل الإعلام الدولية بـ«ترامب البرازيلى».
كلاهما بنى صورته السياسية على خطاب شعبوى يستثمر فى كراهية الأقليات وفساد النخب الحاكمة ومعدلات البطالة والتضخم ومستويات الجريمة.
وكلاهما جاء من خارج المؤسسة ويتبنى الموقف نفسه من اتفاقية باريس للمناخ ولا يعير اهتماما كبيرا بأية اتفاقيات دولية موقعة ويتصادم مع الصحافة والإعلام، ويعتمد على دعم الطائفة الإنجيلية بخطابها المتشدد الموالى لإسرائيل.
كأن الرجلين أصل وصورة، شيخ ومريد فى مدرسة شعبوية واحدة.
مفارقة الصعود المثير والأفول النسبى تأخذ معنى مختلفا بالنظر إلى أن البرازيل ليست أمريكا، ولا ديمقراطيتها الناشئة لها ذات الرسوخ والتقاليد والقدرة على التصحيح والتصويب.
بنص كلام «بولسونارو» فإنه سوف يحكم البرازيل بـ«الكتاب المقدس والدستور» دون أن يوضح كيف فى دولة علمانية متعددة الأعراق والأديان؟
الأخطر أنه لا يخفى إعجابه البالغ بفترة الديكتاتورية العسكرية التى حكمت البرازيل بين عامى (1964) و(1985).
هذا مشروع صدام مؤجل لكنه محتم بالنظر إلى إرث تلك الفترة فى انتهاكات الحريات وحقوق الإنسان وتعذيب معارضيها اليساريين، وما انطوت عليه من تحالفات معلنة بين جماعات المصالح الرأسمالية والاستخبارات الأمريكية.
إذا ما أفلتت الحوادث من عقالها فإن الخشية حقيقية على رابع أكبر ديمقراطية فى العالم.
تعهداته الانتخابية تزكى احتمالات انفلات الأمن باسم الدفاع عنه كمنح الشرطة حق إطلاق الرصاص على المجرمين المسلحين دون ضوابط، وتخفيف القيود المفروضة على اقتناء السلاح دون تحرز.
بصورة أو أخرى يمكن رسم سيناريوهات للمستقبل الأمريكى على قدر من الدقة استنادا إلى موازين القوى التى تحكم اللعبة السياسية وتلزم أطرافها بقواعد دستورية ملزمة لا يملك أحد تجاوزها، لا «ترامب» ولا غيره، فيما لا يمكن رسم سيناريوهات مماثلة للمستقبل البرازيلى.
المستقبل كله غامض، الديمقراطية فى خطر داهم واحتمالات الانفجار غير مستبعدة.
لا يجب أن ننسى أن حروب العصابات التى سادت القارة اللاتينية لسنوات طويلة حول منتصف القرن الماضى، كانت ردة فعل عنيفة للفساد المنهجى فى مؤسسات الحكم وتبعيتها الكاملة وضد هذا النوع من الرئاسات.
بعد أثمان وتضحيات فادحة تجاوزت القارة اللاتينية فعل السلاح إلى طلب الديمقراطية ومازجتها مع العدالة الاجتماعية والتحرر من الهيمنة الأمريكية.
لم تكن مصادفة أن تعود أغلب إسهامات «نظريات التبعية»، التى سادت الجامعات الغربية لسنوات طويلة إلى اقتصاديين لاتينيين.
كانوا كبلدانهم وأدبائهم مسكونين بوطأة الانقلابات العسكرية، التى ترعاها الاستخبارات الأمريكية، وما ترتكبه من مجازر دموية، كالتى حدثت فى «تشيلى» على يد الجنرال «أوجستو بينوشيه» ضد أنصار الرئيس «سلفادور الليندى»، أو بالنهب المنظم الذى ترتكبه الشركات الدولية بالتعاون مع شبكة فساد تتحكم فى مقاليد السلطة.
حرب العصابات استدعتها الأنظمة الفاشية والوسائل الديمقراطية تهيأت لها ظروف استجدت مكنت اليسار اللاتينى من الوصول إلى السلطة فى دول عديدة.
كان ذلك تطورا جوهريا فى أمريكا اللاتينية أغلق صفحة وفتح أخرى.
أخطر ما يحدث الآن أن ما أغلق قد يفتح من جديد.
القضية ليست أن يخسر حزب العمال اليسارى مقاليد السلطة بعد ثلاثة عشر عاما فيها.
تداول السلطة من طبيعة الديمقراطية.
والقضية ليست أن يتراجع اليسار اللاتينى فى أكثر من دولة، فمن حق الشعوب أن تعاقب فى صناديق الاقتراع من يتعثر فى الوفاء بوعوده وبرامجه أو يتنكر لها.
القضية فى احترام القواعد الديمقراطية نفسها.
ذلك يدعو للتساؤل عن مستقبل الديمقراطيات الناشئة فى أمريكا اللاتينية، التى تجتاحها موجات شعبوية مماثلة، ومستقبل اليسار اللاتينى الذى هيمن تقريبا على مشاهدها السياسية فى الحقب الأخيرة، قبل أن تنال من بعض نخبه الحاكمة اتهامات الفساد ووطأة الأزمات الاقتصادية، والحملات الممنهجة عليه من جماعات المصالح الرأسمالية المرتبطة تقليديا بالاستراتيجيات الأمريكية.
كما يدعو للتساؤل حول تأثير الأفول النسبى لـ«ترامب» على نمو الحركات اليمينية المتطرفة فى القارة الأوروبية، التى شهدت فى الآونة الأخيرة بزخم صعود ظاهرته فى الولايات المتحدة، نموا غير مسبوق لهذه الحركات فى بلدان يفترض أنها ذات تقاليد ديمقراطية عريقة مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والنمسا.
الأسئلة لا يمكن تجنبها وتأثيرها واصل إلى هنا، حيث نحن فى العالم العربى نتابع بلا اكتراث ما يحدث فى أمريكا اللاتينية، لا نعرف من هم أصدقاؤنا ولا من هم أعداؤنا، ولا نعرف كيف نمد جسورنا؟، وإذا ما مددناها لا نعرف ما الذى نقوله ولا ماذا نريد؟
أرجو ألا ننسى أن أول قرار شرع فى تنفيذه «بولسونارو» نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة أسوة بـ«ترامب»، لكنه اضطر إلى التوقف المؤقت خشية ما قد يلحق ببلاده من خسائر فادحة.
من أسوأ ما يحدث فى العالم العربى قدر التجاهل لما يحدث حولنا فى العالم، أو أن نراه بعيدا فيما هو واصل إلينا بأمواجه وأحيانا بأعاصيره.