رحيل رجل نزيه قد لا يعرفه غيرنا
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 12 مارس 2024 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
شهد الأسبوع الماضى رحيل رجل نزيه اسمه محمد عبدالرسول، لا يبدو معروفا لدى كثيرين لكن ما لا يعرفه أحد أن هذا الرجل رافق صلاح عيسى وعبدالرحمن الأبنودى وجمال الغيطانى وصبرى حافظ وغالب هلسا ويحيى الطاهر عبدالله وصبرى حافظ، خليل كلفت وإبراهيم فتحى خلال سنوات البدايات وكانت كلمته مسموعة فى أوساط هؤلاء منذ منتصف الستينيات وإلى أن مات.
كان فى استطاعة عبدالرسول أن يبلغ ما بلغه هؤلاء من شهرة أو نجاح لكن آثر البقاء فى الظل يؤدى واجباته الوطنية بقناعة، ويعمل كأى مواطن مصرى عادى بضمير مرتاح احتكم إليه وقاده إلى اختيار العزلة بدلا من الدخول فى مناورات وخيارات تعكر صفوه وتنغص عليه رضاه وتأخذ من تكوينه الصلب الفريد.
عرفت محمد عبدالرسول قبل عشرين عاما، ولنحو 15 عاما كان بيتى قريبا من بيته وكنت أمنى نفسى كل يوم بالصعود إلى شقته فى عمارات الأوقاف فى حدائق القبة لتسجيل ذكرياته حول التجارب الفريدة التى عاشها داخل تنظيم من أهم تنظيمات الحركة اليسارية المصرية وهو تنظيم (وحدة الشيوعيين)، وقد تميز ذلك التنظيم بخصوصية فريدة ليست لها علاقة بالأسباب التنظيمية المعتادة فى تنظيمات من هذا النوع، وإنما لكونه التنظيم الوحيد الذى كان يعتمد فى تكوينه على جماعة من المبدعين وقادة من المفكرين الذين يندر اجتماعهم فى تنظيم سياسى واحد.
واليوم يصعب التصديق بأن هناك تنظيما سياسيا ضم فى عضويته شعراء لهم موهبة عبدالرحمن الأبنودى وسيد حجاب أو كتاب قصة بحجم يحيى الطاهر عبدالله وجمال الغيطانى ومحمد إبراهيم مبروك ومؤرخ وصحفى لامع مثل صلاح عيسى ناهيك عن ناقد خلاق مثل صبرى حافظ، بالإضافة إلى وجود مفكرين أفذاذ مثل إبراهيم فتحى، محجوب عمر، خليل كلفت والثنائى عادل رفعت وبهجت النادى اللذين يكتبان اليوم باسم مستعار هو محمود حسين.
وعلى الرغم من تلك الأسماء العظيمة فإن جميع أعضاء التنظيم فاتهم الكتابة عنه وقد لفتت نظرى هذه المسألة عام 2008 خلال قيامى بإعداد دراسة حول كتاب مهم أصدرته الصديقة الراحلة العزيزة عطيات الأبنودى عنوانه (أيام لم تكن معه) بغرض رصد حياتها خلال تجربة سجن زوجها آنذاك الشاعر عبدالرحمن الأبنودى الذى كان من بين أعلام التنظيم، وقد اقترح على الصديق شعبان يوسف كتابة تلك الدراسة للمشاركة فى مؤتمر كان يتولى تنظيمه مع مركز البحوث العربية حول أدب السجون.
تحجج أعضاء التنظيم أمامى بأن محنة سجن كانت أقل من مائتى يوم كما أن النكسة فاجأتهم بعد الخروج بأيام، لكن واقع الحال يؤكد أنها كانت مهمة للدرجة التى دفعت فيلسوفا كبيرا مثل جان بول سارتر بالتدخل لإطلاق سراحهم وهى واقعة أصبحت معروفة الآن.
ونظرا لفقر المصادر المكتوبة حول التنظيم بدأت وقتها إجراء مقابلات مع بعض من كانوا منتمين له ولفت نظرى أن محمد عبدالرسول كان أكثر هؤلاء احتفاظا بالتفاصيل، كما أنه الاسم الذى تكرر ذكره فى لقاءاتى مع الآخرين وقد أخبرتنى المرحومة عطيات الأبنودى بأنها تثق فى ضميره ثقة مطلقة وكانت محقة فى ذلك، لأن عبدالرسول كان فى إمكانه أن ينقل إليك الشعور بصلابته لكن مع دفء حقيقى وود غير مصطنع تتجلى فيه استقامته الأخلاقية بوضوح.
وقد شهدت السنوات الأخيرة توافر مصادر جديدة حول هذا التنظيم لعل أبرزها سلسلة المقالات التى كتبها الصحفى الكبير محمد العزبى فى كتابه المهم (هل يدخل الصحفيون الجنة؟) وما دونه الروائى الصديق إيمان يحيى فى روايته (قبل النكسة بيوم) التى استلهم فيها التجربة بشكل واضح وكتبها من منظور التخييل الروائى يخدم مشروعه فى تأمل الوقائع المفصلية فى تاريخ مصر، بالإضافة لما نشره الدكتور صبرى حافظ من ذكريات فى أحدث مؤلفاته حول طه حسين، كما كتب شعبان يوسف الكثير حول التنظيم فى إطار مؤلفه (الثقافة المصرية، سيرة أخرى).
ربما تخلو تلك المصادر من ذكر محمد عبدالرسول، لكنى أعتبره رمانة ميزان هذا الجيل ومرجعيته الأولى بفضل ما كان يتمتع به من مواصفات أخلاقية ارتقت به فوق كل الخلافات. بعد انتقاله إلى رحمة الله أتمنى أن يكون قد ترك مذكراته لدى ولديه الزميلين العزيزين النابهين خالد وأحمد عبدالرسول وهما على علم بأدواره الاستثنائية ولا أعلم أن كان قد كتبها كما كان يعدنا أم لم يشرع فى كتابتها أبدا.
فاتنا أن نذكر خصال هذا الرجل فى حياته وما أصعب أن نتذكرها عند وداعه
وعزاؤنا أن محمد عبدالرسول يستحق أن نتذكره دائما فى الصورة التى وصفها ابنه أحمد فى كلمات الرثاء التى كتبها مودعا والده، فقد تحدث عن الشهامة والرقى والتسامح والعطاء ومعهم فى نفس الوقت القوة والرجولة والشموخ كما ذكر أحمد أنه تعلم من والده احترام النفس والترفع عن الصغائر وفى نفس الوقت اتخاذ الموقف المناسب فى الوقت المناسب مهما كان الثمن، فضلا عن الالتزام بقضايا العدل والسلام والحرية.
شهد الابن لوالده بأنه لم يسع يوما لمصلحة شخصية، أو منفعة وضحى كثيرا بالوظائف المرموقة واحدة تلو الأخرى وغيرها من مكاسب الدنيا فى سبيل الدفاع عن مبادئه وكرامته فما أنبل ما ترك!.