عودة إلى غزة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
السبت 12 يوليه 2014 - 8:45 ص
بتوقيت القاهرة
عودة غزة إلى مشاهد النار اختبار جديد للسياسة المصرية فى أن تكون رقما مؤثرا وفاعلا وفق مصالح أمنها القومى.
غزة قضية مصرية وأى كلام آخر أقرب إلى التحليق فى فراغ التوهمات وخلط ما هو عرضى بما هو مصيرى ثمنه باهظ. لا تملك مصر وهى تتطلع لاستعادة شىء من أوزانها فى المنطقة أن تتجاهل العدوان الإسرائيلى وتصمت على آثاره الخطيرة، فلا دور إقليمى بلا سند سياسى وأخلاقى ورغم التجريف الذى لحق بالقضية الفلسطينية فإنها مازالت ميزان المنطقة حتى هذه اللحظة.
القضية أكبر وأخطر من أن تبقى أسيرة نظرة ضيقة لحجم المخاطر وتداعياتها المحتملة.
لا «حماس» تلخص غزة ولا المخاطر المتوقعة تتوقف عند خط الحدود.
صحيح أن «حماس» تورطت بفداحة فى الصراعات الداخلية المصرية وراكمت مشاعر سلبية عند قطاعات شعبية واسعة إلا أن ترويع غزة واستهداف مبانيها وبشرها تهديد مباشر للمصالح المصرية العليا بغض النظر عمن يحكمها وتعقيدات العلاقات معه.
مصر تكاد أن تكون متنفس الحياة الوحيد لأهلها وغزة مسألة أمن قومى على درجة عالية من الحساسية والخطورة.
هذه الصياغة صحيحة لكنها لا تفى بالحقائق الإنسانية والاجتماعية والتاريخية. وإذا اعتمدنا المفهوم الأمنى المباشر فإن كل السيناريوهات المحتملة تفضى إلى إضرار بالغ باعتباراته وحساباته.
التلكؤ فى نصرة غزة يعمق المشاعر العامة السلبية المتبادلة والغارات المتوالية بقنابلها وصواريخها تعمق العزلة الشعورية. بمنظور أمنى وسياسى معا فإن الفلسطينى العادى هو وثيقة أمان لمصر وشعبها وتركه وحيدا أقرب إلى دعوة مفتوحة لتوطن الجماعات التكفيرية على الحدود دون أن يرى ما يستحق النهوض لمقاومته فتتفسخ وشائج تاريخية ومصائر مشتركة. عندما تتركه تحت قصف القنابل وهدم المنازل ورائحة الدم ولا يرتفع صوتك غضبا وتضامنا وتخلط الأوراق بين الشعب الفلسطينى وأحد فصائله فإن خسارتك فادحة ولا تقل عن خسارته.
وحدة المصير تصنعها المواقف المشتركة والمعاناة الواحدة.
أن ينهض لمناصرتك كما ناصرته ويغضب لك كما غضبت له خيار مصيرى بالمعنى الحرفى.
فى التدخل البرى شبه المرجح فإنه يعمق الأزمة المصرية بذات قدر المعاناة الفلسطينية، فالتوغل العسكرى الإسرائيلى ينال بقسوة من طاقة غزة على التحمل ويقلص فى الوقت نفسه من الرهانات الإستراتيجية المعلقة على عودة محتملة لمصر.
رسالة التوغل أقوى من آلياته العسكرية، فإسرائيل تطلب تحطيم غزة لا العودة إليها، فقد كانت كابوسا دعا رئيس وزرائها الأسبق «إسحاق رابين» أن يتمنى الاستيقاظ من النوم فلا يجدها على الخريطة.
فى العدوان تأكيد جديد فى لحظة مختلفة على أولوية الأمن الإسرائيلى وفق صياغته اليمينية الأكثر تشددا.
وهذه رسالة لأطراف متعددة.
رسالة اعتراض بالقوة على مشروع المصالحة الوطنية الفلسطينية فالتوجه ذاته ضد استراتيجيتها فى تفكيك وحدة الشعب والقضية بين الضفة الغربية وغزة وفلسطينيى (٤٨) والذين فى الشتات بإلغاء حق العودة وعزل غزة وتهويد القدس وقضم المساحة الأكبر من الضفة.
المقاومة تقرها القوانين الدولية للشعوب التى ترزح تحت الاحتلال لكن موازين القوى وأحجام التسليح لا تسمح بوصف ما يجرى بالحرب.
هناك طرف يقصف بكثافة المدنيين ويحطم معنى الحياة ويهدد بالتدخل البرى دون كلمة اعتراض واحدة من أية قوة دولية كأن العدوان حق مكتسب وطرف آخر يحاول أن يصمد ويقاتل ويوجع المعتدى لكن دون تكافؤ.
فى رسالة القوة دعوة لـ«حماس» أن تنكفئ داخل غزة كـ«جيتو» منعزل عن القضية الفلسطينية ومستقبلها ودعوة أخرى للسلطة بأن تنفض يدها من مصالحة «حماس» فلا مفاوضات فى ظل وجودها بحكومة التوافق الوطنى.
والمعنى أن المفاوضات أبوابها مغلقة والمقاومة تحت التصفية الميدانية.
الرسالة بأهداف أخرى وجهها الحلفاء الأمريكيون والأوروبيون من أن الأمن الإسرائيلى طرف مباشر فى كل حساب وقبل أى حساب فى أية ترتيبات محتملة بالمنطقة عند إعادة رسم خرائطها من جديد.
فى المشهد الإقليمى واللاعبون الكبار يتحركون فوقه تحولات تجرى تحت النيران المشتعلة وعلى موائد التسويات الكبرى.
التحولات متداخلة بصورة مثيرة، فهناك توجه تفاوضى يقترب من نهاياته لتسوية الأزمة الأمريكية الإيرانية وقلق فى الخليج من حدود الاقتراب مع إيران وآثاره على مستقبل دوله وحربان دمويتان فى سوريا والعراق ينذران بخرائط جديدة لها انعكاساتها على دول المشرق العربى الأخرى فى لبنان والأردن وانفلات لأشباح الإرهاب خارج أية توقعات سابقة.
فى التحولات الأطراف كلها فى لحظة قلق وإسرائيل أرادت أن تقول إنها هنا بينما المصير الفلسطينى فى قلب عاصفة النار.
بغض النظر عن سيناريوهات ونتائج العدوان الجديد على غزة فإن هذه ليست خاتمة القصة.
عند رسم خرائط المنطقة من جديد ففلسطين على رأس الضحايا المتوقعين ومصر المنكفئة على نفسها الجائزة الكبرى فى شباك اللاعبين الكبار.
إن لم تتحرك خارج حدودها لإدارة مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية فإن الأطراف الأخرى سوف لا تتركها فى حالها، فهذا بلد تحكمه أقداره الجغرافية فإما أن يخرج ويلعب دوره أو أن ينكفئ ويتحول إلى ساحة لعب لآخرين.
ورغم ظروفها الصعبة التى تضيق أمامها مساحة حركتها فإنها مدعوة للحركة الإيجابية التى لا تتوقف حدودها عند بيانات عامة تدين العدوان وتقول إنها تتواصل مع الأطراف جميعها لوقفه بينما رئيس الحكومة الإسرائيلية «بنيامين نتنياهو» يعلن أنه غير مستعد للاستماع إلى أية تدخلات تطلب وقف العمليات العسكرية.
المعنى أن السياسة المصرية فى حدودها الحالية لا يتجاوز تأثيرها إبداء المواقف العامة دون قدرة على التأثير فى الأحداث وأن ما تحتاجه بفداحة توسيع خياراتها الاستراتيجية ومجالات حركتها.
أول تحدياتها فى لغة الخطاب السياسى والإعلامى. فى ارتباكه إهدار للقدرة على التأثير وانزلاق الأقدام إلى حيث لا يصح أن تنزلق.
بارتفاع مستوى الأداء السياسى والإعلامى يحق لمصر أن يرتفع صوتها فى محيطها كدولة تعلى المصالح القومية فوق أية اعتبارات أخرى وأن تتطلع فى الوقت نفسه للعب أدوار أكبر فى معادلات المنطقة. وثانى تحدياتها أن تقرأ التحولات الإقليمية وفق مصالحها، فاللاعب الإيرانى حاضر فى المشهد والصواريخ الفلسطينية أغلبها من صنعه بينما المواقع تتناقض فى الساحة السورية واللاعب التركى يرقب التحولات دون تدخل ملموس فالهاجس العراقى له أولوياته على مستقبل الدولة نفسها ودول عربية كبيرة مثل الجزائر شبه منعزلة لكنها قد تأخذ خطوة كبيرة للأمام بتشجيع القاهرة ودول أخرى فى قلب الفوران الدموى مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن وبدرجة أقل لبنان تتطلع لدور مصرى ما وتنتظر إشارة تؤكد القدرة عليه وفى غزة اختبار والخليج ينظر قلقا إلى التداعيات رغم أزماته المستعصية هو الآخر مع حماس ويمد بصره إلى هنا.
مشكلة التفكير السياسى المصرى فى تبرير المواقف الأقل أهمية فى اللحظة الأكثر خطورة أنه يصادر الحركة قبل أن تبدأ بفرضية أن أية سياسات تخرج عن السياق المعتاد تفضى إلى حرب، كأن الخيار هو إما الحرب وإما الصمت، وهو خيار مدمر للمصالح المصرية ويفضى إلى تآكل الرهانات العربية على دور مصرى جديد