مئوية ثورة 1919: لماذا صعدت.. وكيف انكسرت؟
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 13 مارس 2019 - 11:25 م
بتوقيت القاهرة
بعد مائة سنة على اندلاع الثورة الشعبية المصرية عام (1919) فإن أعز ما يتبقى فى الذاكرة العامة هو حجم التضحيات التى بذلت والدماء التى أريقت والأمانى التى حلقت وقدرة المصريين على صنع الثورات واحدة إثر أخرى كلما بدا أن اليأس قد خيم.
سقط فى حلبة الثورة نحو (٨٠٠) شهيد وأصيب (٦٠٠) جريح.
كان حجم التضحيات مقاسا على تعداد السكان وقتها، كاشفا لعمق التجربة وصلابة شعبها فى طلب الاستقلال والدستور.
ثورة (1919) هى بنت ما بعد الحرب العالمية الأولى وما أطلقته نتائجها من إقرار لحق الشعوب فى تقرير مصيرها.
هذه حقيقة أولى.
الثورات لا تنشأ فى فراغ تاريخ أو خارج حسابات زمنها.
كما أنها استطراد فى زمن جديد لجوهر ما طالبت به الثورة العرابية المجهضة بالاحتلال العسكرى البريطانى لمصر عام (1882) ولحركة «مصطفى كامل» التى عملت على إحياء الوطنية المصرية بعد سنوات طويلة من الترهيب والتخويف الذى أعقب هزيمة العرابيين.
هذه حقيقة ثانية إنكارها تجهيل بوحدة ثورات مصر.
بعد ثورة (1919) تأسس نظام حكم شبه ليبرالى مقتله فى طبيعته حيث سيطرت عليه ثلاثة قصور: قصر الدوبارة حيث السفارة البريطانية مركز السلطة الفعلية، وقصر عابدين حيث سلطة الملك، وقصر لاظوغلى حيث مقر الحكومة.
بموجب تصريح (28) فبراير (1922)، الذى أعلنته بريطانيا من طرف واحد، حصلت مصر على استقلال صورى فى التفاف كامل على جوهره.
وجرى التلاعب بدستور (1923) أفضل ما أنجزته الثورة وحرمان «الوفد»، حزب الأغلبية الشعبية بلا منازع، من حقه فى الحكم باستثناء مرات معدودة، لكن آثارها فى حركة المجتمع والاقتصاد والثقافة والفنون والتعليم جعلت مصر أكثر ثقة فى نفسها ومستقبلها.
بدأت مصر تنتفض من جديد.
فى عام (١٩٣٥) خرجت مظاهرات حاشدة تحتج على تصريح بريطانى بأن مصر لا يصلح لها دستور (١٩٢٣) ولا حتى دستور (١٩٣٠) الذى يعد انقضاضا على إنجاز الثورة الرئيسى.
فى هذه المظاهرات تواصل عطاء الدم المصرى.
وفى عام (١٩٤٦) خرجت مظاهرات حاشدة أخرى، من أجل مطلب الاستقلال، أفضت إلى شهداء جدد من بينهم (٢٣) شهيدا فى ميدان «الإسماعيلية»، وهو ذاته الميدان المعروف الآن باسم «التحرير»، وأصيب فى هذه الموقعة (١٢١) جريحا. بعد أيام فى الإسكندرية سقط (٢٨) شهيدا و(٣٤٢) جريحا.
بروح نقد ثورة (1919) فى أربعينيات القرن الماضى بزغت روح جديدة وتيارات فكرية جديدة، مهدت الطريق لـ(٢٣) يوليو، التى حاربت وحوربت، أنجزت وانتكست.
المشكلة الحقيقية فى مصر أن تاريخها الحديث لم يسر من مرحلة إلى أخرى، ومن تطور إلى آخر، بطريقة طبيعية.
كل ولاداته «عمليات قيصرية»، وكل هزائمه «عمليات إجهاض».
عندما تخفق ثورة فى تحقيق أهدافها بأخطاء ارتكبتها، أو بالعمل المسلح الخارجى ضدها، فإن من يصعدون بعدها ينتقدون قادتها وينسبون إليهم أسباب الإخفاق.
هذه طبائع ثورات، لكنها فى الحالة المصرية استحالت إلى تصفية حسابات تجاوزت كل منطق.
تجاهلت ثورة (١٩١٩) «أحمد عرابى»، ولم تر نفسها امتدادا وتطويرا فى ظروف مختلفة دوليا وإقليميا لثورته التى جسدتها المؤسسة العسكرية المصرية الوليدة.
لم يرد اعتبار ثورة «عرابى» بصورة كاملة إلا بعد قيام ثورة (١٩٥٢).
قيل إن ثورة «يوليو» قد فعلت ذلك، لأنها أيضا ثورة عسكرية!
كان ذلك إهدارا بالتعسف لقيمة الثورة العرابية وحقها فى رد الاعتبار.
لم تكن الثورة العرابية عملا مثاليا، شأن أية ثورة أخرى، لكنها مثلت فى زمانها احتجاجا على التمييز ضد المصريين.
بذات القدر تبدت مساجلات استهلكت زمنا طويلا حول ثورة (١٩١٩).
تلخصت وجهة نظر «الحزب الوطنى»، الذى أسسه «مصطفى كامل»، فى حملات وانتقادات، بعضها صحيحة وموثقة لـ«سعد زغلول»، غير أن منهج النقد الذى اتبعه كتابه ومؤرخوه افتقد إلى حقيقة كادت تضيع فى زحام التنافس السياسى، وهى أنه أعطى ثورة (1919) رمزيتها الملهمة وتجسيدها الحى، رغم ما هو منسوب إليه من صلات وثيقة سابقة مع سلطات الاحتلال البريطانى، وأن الثورة فاجأته.
عندما جاءت «لجنة ملنر» لتقصى آراء المصريين فى الاستقلال كانت إجابة الفلاحين فى الحقول واحدة: «اسألوا سعد باشا».
فى تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ مصر، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى تجسدت إرادة الاستقلال حول ذلك الرجل الستينى.
لا يليق بأى منطق تاريخى أن يُقال إن «سعد زغلول» سرق الثورة من الحزب الوطنى حزب «مصطفى كامل» وخليفته «محمد فريد».
ثورة «يوليو» تعرضت لاتهام من نفس النوع بأنها سرقت الثورة من الشيوعيين، أو من الإخوان المسلمين، وهو كلام مرسل لا يسنده دليل وتعوزه الأسباب الحقيقية لصعود تيارات وقيادات بعينها وإخفاق أخرى.
ثم إنه لا يمكن إنكار حجم شعبية «سعد زغلول» وارتفاعه إلى مستوى الحدث التاريخى فى سياق مفاهيم العصر فأغلب الانتقادات تنصب على مرحلة ما قبل الثورة لا ما بعدها.
اختلاف العصور والأجيال شىء، ونفى أى صلات شىء آخر.
كان حادث (٤) فبراير (١٩٤٢)، قبل عشر سنوات من إطاحة النظام الملكى، هو اليوم المؤسس لكل ما جرى حتى (٢٣) يوليو.
فى ذلك اليوم وجه السفير البريطانى السير «مايلز لامبسون» إنذارا إلى الملك الشاب «فاروق»، الذى دأب على وصفه بـ«الولد»، وكان الوصف شائعا على لسانه وسجله تكرارا فى مذكراته.
كان «فاروق» وقتها فى الثانية والعشرين من عمره.
يقول نص الإنذار: «إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة من مساء اليوم أن مصطفى النحاس دعى إلى تأليف الوزارة فإن الملك فاروق يتحمل تبعات ما يحدث».
كان النص، الذى أملاه السفير البريطانى على رئيس الديوان الملكى «أحمد حسنين»، مهينا بأى معنى سياسى وكاشفا لوهم «الاستقلال الصورى».
بحقائق القوة المجردة لم يكن هناك محل لادعاء استقلال، أو سيادة، أو احترام لـ«مليك البلاد».
وكان «مصطفى النحاس» ضحية للتناقض بين ما رآه حقا أصيلا للوفد باعتباره حزب الأغلبية الشعبية أيا كانت الملابسات والظروف وبين ما اعتقد فيه طيف واسع من المصريين من أنه تقبلها على «أسنة الحراب البريطانية».
الحادث بدلالاته وردات فعله سحب من «الحق» شرعيته السياسية والأخلاقية على نحو أثر بقسوة على سمعة حزب الأغلبية الشعبية وأذن بغروب ثورة وصعود أخرى فى (23) يوليو (1952).