الاستراتيجية العرجاء
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
السبت 13 سبتمبر 2014 - 8:25 ص
بتوقيت القاهرة
هو رجل تمزق إدارته عقدتان.
الأولى التدخل العسكرى فى فيتنام الذى أفضى إلى هزيمة استراتيجية مهينة فى أحراشها وانقسام داخلى لا سابق له فى التاريخ الأمريكى منذ الحرب الأهلية.
والثانية الإحجام عن التدخل الإنسانى فى بوروندى لوقف مذابح تطهير عرقى مروعة تعد واحدة من أبشع ما تعرضت له الإنسانية المعاصرة.
ما بين عقدة الهزيمة وعقدة الذنب تكاد تغيب أية رؤية استراتيجية على شىء من التماسك فى إدارة الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» لملفاته الخارجية.
القضية ليست أن يتدخل أو لا يتدخل بقدر ما هى أن يكون واضحا أمام العالم: ماذا يريد.. وما وسائله؟
يدرك «أوباما» بعمق أن من أسباب صعوده إلى الرئاسة الأمريكية غضب الرأى العام على تورط سلفه «جورج دبليو بوش» فى حربى أفغانستان والعراق باسم الحرب على الإرهاب وحملات الخداع التى تعرض لها.
لا قُضى على تمركز تنظيم «القاعدة» فى الجبال الأفغانية ولا ثبتت الإدعاءات التى تحدثت عن امتلاك نظام «صدام حسين» أسلحة دمار شامل.
تبنى استراتيجية جديدة للانتقال بمراكز قوته من الشرق الأوسط وأزماته المزمنة إلى الشرق الأسيوى بتحدياته المستقبلية غير أن كل ما خطط له تعطل بسبب نزاعاته الداخلية مع الجمهوريين حتى داهمته «داعش» ومخاطرها.
أزمة «داعش» تعكس الحيرة الاستراتيجية فى إدارة «أوباما» أكثر من أى شىء آخر.
فهو يريد أن يؤكد أمام جمهوره الأمريكى ما تعهد به سابقا من عدم التورط فى مغامرات مسلحة ويطمئنه فى الوقت نفسه أنه قادر على مواجهة الإرهاب فى مواقع تمركزه قبل أن تصل ضرباته إلى مدنه الكبرى على ما جرى فى أحداث (١١) سبتمبر قبل ثلاثة عشر عاما بالضبط.
الحرب بدأت دون أن تكون هناك استراتيجية متماسكة تجمع حلفها الواسع لا فى إدارة العمليات ولا فى توزيع المهام ولا طبيعة الأهداف ولا ما بعد الانتهاء من الحرب.
الحديث بأكثر مما هو طبيعى عن «الاستراتيجية» يعكس إلى حد ما غياب عناصرها اللازمة.
الخيارات الأمريكية المعلنة لا تؤسس لاستراتيجية يعتد بها وما هو معلن يكفى لبدء العمليات العسكرية دون أن يكون مؤكدا بقاء التحالف شبه موحدا.
الثغرات أوسع من أن تردم والشكوك أكبر من أن تهمل.
لكل طرف إقليمى فاعل ومؤثر حسابات ومصالح تتعارض بعضها مع البعض الآخر على نحو يهدد تماسك التحالف الذى بنته الإدارة الأمريكية على عجل لإعطاء انطباع عام بأنها لا تتحرك وحدها.
هناك نوعان من الحلفاء، الأول معلن ويضم دولا غربية وأخرى عربية بالإضافة إلى تركيا، وهو بمكوناته أقرب إلى التعاون اللوجسيتى والاستخباراتى دون أن يكون له دور كبير فى العمليات باستثناء التمويل الخليجى المحتمل لها.. والثانى تأثيره جوهرى فى مسار المواجهات لكنه خارج الاجتماعات الرسمية ويضم إلى إيران حليفيها السورى والروسى.
إيران لاعب رئيسى لا يمكن تجاهله فى المواجهات المسلحة الجارية والصفقات السياسية المحتملة، فهو متداخل فى الملف العراقى أكثر من أية طرف إقليمى آخر وأية عمليات برية يصعب أن تنجز مهمتها دون تعاون جدى من طهران، كما أنه طرف مباشر فيما يجرى بسوريا التى يستحيل تجاهل مراكز إمداد «داعش» فيها حيث يسيطر التنظيم الإرهابى على نحو ثلثى العراق وسوريا معا.
بحسب «أوباما» فإنه لن يشرك النظام السورى فى أية عمليات عسكرية معولا على المعارضة المسلحة التى تطالب بمواجهات مماثلة مع «بشار الأسد» غير أن وزنها العسكرى لا يسمح لها بأية تقدم برى محتمل على حساب «داعش».. وبحسب «الأسد» نفسه فإنه مستعد للتعاون فى الحرب على «داعش» محذرا فى الوقت نفسه من أن أية غارات فوق أراضيه بلا إذن مسبق عدوان.
إيران وروسيا والصين يؤكدون على احترام القانون الدولى وحسابات المصالح ترجح تفاهمات فى الكواليس الاستخباراتية بعيدا عن أية ضغوط محتملة.
الكلام الأمريكى لا يستبعد مثل هذا الاحتمال فقد رادف تأكيده على تسليح المعارضة السورية دعوته للبحث عن حل سياسى للأزمة.
طمأن حلفاءه دون أن يسد الأبواب أمام تعاون إيرانى يحتاجه بفداحة.
المعنى أن غياب اللاعب الإيرانى عن الاجتماعات الرسمية للحلف الجديد لا يعنى نزوعا أمريكيا لإقصائه بقدر ما يعنى محاولة لتخفيض مستوى التوترات المحتملة مع دول الخليج فى لحظة حشد موارد لمواجهة قد تطول إلى ثلاث سنوات كاملة بحسب التوقعات الأمريكية.
المدى الزمنى الطويل المتوقع للعمليات يعكس بذاته أن الأزمة أكثر تعقيدا من أن تحل فى أسابيع وشهور وأنها تقتضى مواجهات أخرى بغير الوسائل المسلحة.
بحسب التصور المعلن فالعمليات سوف تعتمد على ضربات الطيران وإسناد التقدم البرى للقوات العراقية التى سوف يجرى تسليحها وإعادة تأهيلها من جديد بالإضافة إلى «البشمركة» الكردية وهى ميليشيات افتقدت القدرة على مواجهة «داعش» التى كادت تقتحم آربيل عاصمة الإقليم الكردى بلا مقاومة تقريبا لولا تدخل الطائرات الأمريكية.
الإسناد السياسى للعمليات العسكرية مشكوك فى صلابته والحكومة العراقية الجديدة التى تشكلت تحت الضغطين الأمريكى والإيرانى عجزت حتى الآن عن تسمية وزيرى الدفاع والداخلية، وهما المنصبان الأكثر أهمية فى العمليات العسكرية.
التوافقات السياسية الهشة فى العراق مرشحة للتشقق والانفجار من الداخل بعد الانتهاء مباشرة من العمليات العسكرية وربما قبلها، وهنا مكمن الخطر الأكبر، فقد تمددت «داعش» على أرضية سياسية واجتماعية تعصف بها كراهيات الإقصاء والتهميش والتنكيل على أسس مذهبية.
ما هو هش لا يؤسس لمستقبل وما هو مذهبى لا يصنع دولة على شىء من الانتساب إلى عصرها.
المفارقة أن من لعب الدور الأكثر خطورة فى تفكيك المنطقة باسم الحرب على الإرهاب يطرح اللافتة نفسها مجددا دون أن يعترف بجرائمه أو يبدى استعدادا لتصحيحها.
فى المذهبيات مشروع إنتاج «داعشيات».
ملاحقة التنظيم عسكريا لا يعنى تقويضا للظاهرة نفسها.
«داعش» خرج من عباءة القاعدة لكنه نقل حركته تخطيطا وتنفيذا من الجبال إلى المدن ومن التفجيرات التى يلحقها هروبا من مواقعها إلى اكتساب الأراضى ومحاولة بناء دولة وفق المواصفات التى يعتقدها.
عباءة التكفير والعنف واحدة وهزيمة مشروع لا يعنى اندحار الفكرة التى سوف تعيد توليد نفسها بصورة أخرى.
«داعش» ليست وحدها ولا العراق وسوريا موطن الإرهاب وآخر حدوده.
المواجهات الجزئية لا تصلح فى مواجهة ظاهرة متوطنة لها جذورها الاجتماعية والفكرية والتاريخية ولا الاستراتيجية الأمريكية العرجاء قادرة على سباق سوف يطول مع الإرهاب.