ما حل بنا بعد سقوط الجدار
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 13 نوفمبر 2019 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
لم يكن سقوط جدار برلين، قبل ثلاثين سنة، حدثا عابرا سرعان ما يطوى صفحاته وصوره فى ذاكرة الزمن.
بسقوط الجدار يوم (9) نوفمبر (1989) اختتمت قصة القرن العشرين بضربات المعاول فيما أعلنت بدايته على دوى المدافع فى الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918).
بين الإعلان الدموى والاختتام المدوى تبدت حقائق قوة جديدة، نشبت ثورات وصراعات أفكار لا عهد للعالم بها من قبل، نشأ نظام عالمى جديد إثر حرب عالمية ثانية أكثر وحشية واتساعا من الأولى وحكم توازن الرعب النووى قواعد اللعبة الدولية عند القمة.
بين البداية الفعلية للقرن ونهايته الرمزية سلبت وقسمت وحوصرت أوطان وأجهضت تطلعات وأحلام فى هذا الجزء من العالم طلبا للاستقلال والوحدة.
عندما سقط جدار برلين انقضى نظام عالمى كامل دون أن يتأسس على أنقاضه نظام جديد ودخل العالم على مدى ثلاثين سنة فيما يشبه «دوار البحر»، أو حالة من السيولة فى العلاقات الدولية.
لا الولايات المتحدة أثبتت قدرتها على القيادة المنفردة للعالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتى رغم فوائض القوة التى تحوزها، ولا قواعد التعددية القطبية تبلورت فى معادلات قوة حاكمة رغم الصعود الاقتصادى الصينى واستعادة روسيا لحضورها الدولى فى الشرق الأوسط على الخصوص وبروز الاتحاد الأوروبى وتأكيد حضوره بعد توحيد الألمانيتين الشرقية والغربية إثر سقوط الجدار.
ولا كان هدم الجدار هو «نهاية التاريخ»، ولا الرأسمالية استطاعت فرض كلمتها الأخيرة مهما توحشت.
وسط ذلك كله دفع العالم العربى أثمانا باهظة للتحولات العاصفة التى جرت فى العلاقات الدولية، استبيحت مصالحه وقضاياه كما أمنه ووجوده، رسمت خرائط لتقسيمه وأهدرت القوانين والمرجعيات الدولية فى القضية الفلسطينية، التى كانت توصف بأنها قضية العرب المركزية.
هناك من يتصور بالخطأ أننا كنا شهودا من بعيد نتابع سقوط جدار برلين على شاشات الفضائيات، كأنه حدث لا شأن لنا به سوى التعاطف الإنسانى مع شعب مزقته الحرب العالمية الثانية إلى دولتين يتطلع لاستعادة وحدته فى مشاهد بليغة ومؤثرة.
لقد كنا ــ بالتداعيات ــ فى قلب العاصفة.
ذات مرة كتب الفيلسوف الوجودى الفرنسى «جان بول ساتر» أن «لكل قرن فلسفة تهيمن عليه».
كان تقديره أن الماركسية هى الفلسفة الأكثر تأثيرا ونفاذا فى قصة القرن العشرين، رغم أنه كان يقف على الجانب الآخر فى صراع الأفكار الكبرى.
فى شريط سينمائى ألمانى أنتج عام (٢٠٠٣) باسم «وداعا لينين» لخص مشهدا واحدا بعض تراجيديا ما جرى بعد انهيار الجدار، الذى أعقبه سقوط الاتحاد السوفيتى والمنظومة الاشتراكية كلها.
كانت هناك مروحية تحلق فوق العاصمة الألمانية برلين متدليا منها بحبال من صلب تمثال ضخم لزعيم الثورة البلشفية ومفكرها الأكبر «فلاديمير اليتش لينين»، بينما ناشطة فى الحزب الشيوعى الألمانى تؤمن بأفكاره ترقب المشهد غير مصدقة.
مالت المروحية قليلا فبدت حركة التمثال كأن «لينين» يمد يده للناشطة الألمانية بالمصافحة الأخيرة.
أراد الشريط السينمائى أن يقول إن كل شىء قد انتهى.
بدأ عصر ألمانى جديد تلخصه إعلانات الـ«كوكاكولا» والمنتجات الغربية فى شوارع الشق الشرقى من برلين.
هذه هى الحقيقة التى كان يخشى على الناشطة المصدومة من أن تواجهها، بعد أن أصيبت بغيبوبة امتدت لشهور تغيرت فيها ألمانيا وتغير العالم.
من زاوية ما ـ صحيحة وموضوعية ـ أسست الثورة البلشفية التى قادها «لينين»، بكل ما حملته من تجربة فى الحكم، وما تولد عنها من سياسات وما تبنته من استراتيجيات لانقلاب كامل فى بنية النظام الدولى بدأت مقدماته قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بعام واحد واستكملت حقائقه بعد الحرب العالمية الثانية.
انقسم العالم أيديولوجيا واستراتيجيا واقتصاديا إلى معسكرين كبيرين بعد انتهاء الحرب الأخيرة.
تصارع على النفوذ قطبان عظميان هما الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة فيما يعرف بـ«الحرب الباردة»، التى انتهت بانهيار جدار برلين وتقوض حلف «وارسو» ـ الذى كان يقابل حلف «الناتو» على الجانب الآخر.
بعد ثلاثين سنة يوشك «الناتو» أن يتفكك بدوره.
فى إشارة لافتة قال الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» إن الحلف «فى حالة موت سريرى» داعيا إلى منظومة أمنية وعسكرية أوروبية بعيدا عن «الناتو» والولايات المتحدة.
تلك الإشارة تخص العالم العربى ومستقبل أمنه بأكثر مما تخص أوروبا، فإذا لم يقدر العرب على صون أمنهم بأنفسهم فإن أحدا لن يتكفل بالمهمة نيابة عنهم إلا أن تكون مدفوعة الأجر، كما يعلن الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» من وقت لآخر.
أرجو أن نتذكر أن العالم العربى لم يكن خارج الاستقطاب الفكرى والسياسى، الذى صاغ مرحلة الصراع الدولى قبل سقوط جدار برلين والاتحاد السوفيتى بعده.
حاولت مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة «جمال عبدالناصر ـ مصر» و«جواهر لال نهرو ـ الهند» و«جوزيب بروز تيتو ـ يوغوسلافيا» اختراق النظام الدولى الثنائى القطبية وتأسيس آخر وفق مبادئ «باندونج».
لم يعن ذلك الوقوف على مسافة متساوية بين المعسكرين المتصارعين، فقد كان التحرر الوطنى القضية الأكثر مركزية على أجندة الدول المستقلة حديثا.
بانفراد القوة الأمريكية بالنظام الدولى تعرض العالم العربى، أكثر من غيره، لما يشبه التحطيم لصالح ما تطلبه إسرائيل، على ما جرى فى العراق مثالا.
كان مثيرا أن أكثر من ابتهجوا لسقوط الاتحاد السوفيتى هم أنفسهم الذين دفعوا أغلب الفواتير.
لم يعد لإرث «لينين» ذات الأثر الفكرى والسياسى، الذى ساد أغلب سنوات القرن العشرين، لكنه أسس لنظرة تتجاوز تجربته إلى حركة المجتمعات الإنسانية فى طلب العدالة الاجتماعية.
طورت الرأسمالية من نفسها تحت ضغط الأفكار الاشتراكية، ونشأت فى كنف الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها «الشيوعية الأوروبية» ـ بتأثير أفكار رجال من حجم «تولياتى» و«جرامشى» فى إيطاليا ـ دمجت ما بين الفكرتين الاشتراكية والديمقراطية.
نشأت فى أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها «الاشتراكية بوجه إنسانى» تجسدت فى «ربيع براج» إثر وصول «إلكسندر دوبتشيك» إلى السلطة زعيما للحزب الشيوعى التشيكوسلوفاكى.
تبنى تجديد الاشتراكية ونزع ثقافة الخوف وإشاعة الديمقراطية والحريات الصحفية، لكن مشروعه جرى سحقه بدبابات «حلف وارسو»، الذى كان يقوده الاتحاد السوفيتى، فى أغسطس (١٩٦٨).
كانت النهايات محتمة، لكن حركة التاريخ لا تتوقف.
جرت مقاربات جديدة حاولت أن تزاوج بين اقتصاد السوق والتخطيط المركزى ــ التجربة الصينية نموذجا، أو أن تؤسس لمدرسة اقتصادية ضد التبعية ــ تجربة أمريكا اللاتينية مثالا.
بعد سقوط جدار برلين نشأت صدامات أفكار من نوع جديد اتخذت عنوان «صراع الحضارات»، وكانت تلك رؤية متعسفة للتاريخ، فكل حضارة أخذت وأضافت للإرث الإنسانى المشترك، أو كما يقال: إنها حضارة واحدة بروافد مختلفة.
نشأت موجة شعبوية غربية ضد الأقليات العربية والمسلمة كانت الوجه الآخر لتوحش الإرهاب باسم الدين قتلا وترويعا، كلاهما تغذى على الآخر.
بذرة الإرهاب الدولى رعتها الاستخبارات الأمريكية فوق جبال أفغانستان للنيل من الاتحاد السوفيتى، وعندما عاد المجاهدون إلى بلدانهم بدأت ظواهر العنف تأخذ منعطفاتها الخطرة.
ما يستحق أن نواجه أنفسنا به أن دولا عربية عديدة دعمت بالتمويل والتسليح والدعاية حروب الاستخبارات الأمريكية فى أفغانستان.
الأخطر من ذلك التواطؤ أننا كنا بالتخاذل طرفا رئيسيا محرضا على كل تنكيل حل بنا والقصة طويلة ومريرة.