هيبة الدولة: مراجعات وتساؤلات
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 13 ديسمبر 2015 - 10:55 م
بتوقيت القاهرة
هيبة الدولة قضية لا يصح التفريط فيها أو التهاون فى متطلباتها.
لا يمكن دحر الإرهاب بدولة ينظر شعبها إلى مؤسسته النيابية بكثير من الشك فى قدرتها على الوفاء بالحد الأدنى من مهامها.
ولا يمكن التقدم إلى المستقبل دون قواعد تحكم الأداء العام، وتعيد بناء الدولة التى خربت على مدى يقارب نصف قرن.
غياب القواعد أصل كل مشكلة وجوهر كل أزمة.
إذا أفلت الأداء البرلمانى من كل قاعدة دستورية وسياسية وأخلاقية، فنحن أمام مشروع تصدع هائل فى هيبة الدولة.
الاعتراف بالحقائق غير مداراتها.
قبل أن يلتئم البرلمان الجديد بدأ التفكير جديا فى منع إذاعة جلساته على الهواء مباشرة.
التفكير نفسه يعنى أننا أمام كارثة سياسية محققة تسبب فيها الذين هندسوا القوانين المنظمة للانتخابات النيابية.
كما تسبب فيها الذين تصوروا أن تجفيف المجال العام يؤكد هيبة الدولة فإذا به يربكها بقسوة.
للأمن أدواره التى لا يستغنى عنها أى مجتمع، غير أن تجاوزها إلى غير ميادينها أفضى إلى تشويه المجال العام بما انتقص من هيبة الدولة فى لحظة طلب تثبيتها.
الأمن هو أول من يحق له أن يقلق من التفلت البرلمانى المتوقع، فلا أمن بلا غطاء سياسى.
عندما ينزع الاحترام عن المؤسسة التشريعية فهيبة الدولة فى دائرة الخطر الداهم.
هذه الحقيقة تستدعى إعادة النظر فى السياسات المتبعة لخفض فاتورة التشوه البرلمانى ومنع أى تصدعات جديدة.
إلهام المشروع من ضرورات أى هيبة.
بتعبير الرئيس «عبدالفتاح السيسى» عندما كان رئيسا للاستخبارات الحربية: «نحتاج إلى قيادة فكرية ملهمة».
هذا ما نحتاجه بالضبط الآن.
فقر الأفكار يفضى مباشرة إلى عشوائية الأداء العام.
فى كل النظم المصرية التى تعاقبت منذ ثورة (٢٣) يوليو ارتفع وانخفض منسوب هيبة الدولة بقدر ما تبنته من أفكار وتوجهات وسياسات.
على عهد «جمال عبدالناصر» تبدت هيبته فى قوة توجهاته الاجتماعية التى لا لبس فيها.
اتفق أو اختلف معه كما تشاء، لكن سجله فى العدل الاجتماعى لا مثيل له فى التاريخ المصرى كله.
كما تبدت هيبته فى معاركه من أجل التحرر الوطنى بالعالم العربى وأفريقيا ممتدة تأثيراتها للعالم الثالث كله.
ليس بوسع أحد إنكار أن قاهرة الستينيات كانت العاصمة العربية المركزية ووجهة حركات التحرير الوطنى أينما كانت.
كانت قوته فى مشروعه لا نظامه الذى بدا كـ«كعب أخيل» فى التراجيديا الإغريقية الذى نفذت منه كل السهام.
بعد (١٩٦٧) راجع تجربته ودعا إلى دولة المؤسسات والمجتمع المفتوح والتعددية الحزبية وأدان مراكز القوى ودولة المخابرات، بحسب وثائق ومحاضر اجتماعات رسمية للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى.
كان هذا اعترافا شجاعا بمواطن الخلل الجوهرية فى طبيعة نظامه التى أفضت إلى هزيمة عسكرية فادحة.
بقدر اتساع المشاركة السياسية يصعب الانقلاب على أى إيجابيات تحققت.
وبقدر التوجه إلى بناء مؤسسات حديثة تثبت هيبة الدول أمام أى عواصف محتملة.
كانت تلك خلاصة تجربة يوليو ونظامها الناصرى.
على عهد «أنور السادات» تراجعت هيبة الدولة بعد فورة الآمال الكبيرة عقب الانتصار العسكرى فى أكتوبر.
السياسات الاقتصادية التى اتبعها أفضت إلى ثورة ناقصة فى يناير عام (١٩٧٧) أطلق عليها «انتفاضة الخبز» بينما اسماها «السادات» «انتفاضة الحرامية».
وسياساته الإقليمية افضت بدورها إلى عزلة مصر عن محيطها العربى وتهميش أدوارها بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل (١٩٧٩).
بتلخيص ما، مضى «السادات» بـ«أستيكة» على طريق «عبدالناصر»، على ما قالت وقتها نكتة مصرية شهيرة.
أسس لتعددية مقيدة، فلا كان بوسع الأحزاب أن تطمح لتداول السلطة ولا كان بمقدورها أن تتجاوز الخطوط الأمنية المرسومة.
لا حافظ على قوة مشروع «عبدالناصر» ولا صحح أخطاء نظامه.
«حسنى مبارك» مضى على الخط نفسه وطول البقاء فى السلطة أدى إلى جمود لا يحتمل فى بنية الدولة.
تراكمت خياراته فوق بعضها كأنها مشروع ثورة عليه.
كان السقوط محتما بأثر «مشروع التوريث» وزواج السلطة بالثروة وتوحش الفساد والتلاعب بالدستور وسحق الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا وتمدد الأمن إلى كل مناحى المجتمع، كأنه دولة فوق الدولة.
لم يكن تصدع الدولة أثناء «يناير» من فعل ثوارها بقدر ما كان نتيجة طبيعية للسياسات التى اتبعها نظام «مبارك».
نفس المصير لاقاه «مشروع التمكين» الذى انتهجته جماعة الإخوان المسلمين.
تنكرت لكل العهود السياسية وانفردت بوضع الدستور على مقاسها وحدها، والدساتير بطبيعتها مسألة توافق وطنى، وانتهجت سياسات «مبارك» الاقتصادية، كأنها وجه آخر لنفس النظام ودخلت فى حرب مفتوحة مع المجتمع والدولة معا فكانت نهايتها السريعة.
مراجعة التجارب المصرية السابقة تضع الحاضر أمام تساؤلات الإجابة عنها إجبارية.
حيث كانت الأهداف معلنة والأولويات مفهومة والمجرى العام ملهما ثبتت هيبة الدولة وتأكدت زعامتها فى محيطها وقارتها وعالمها الثالث.
وحيث ضاعت البوصلات ورهنت الإرادة المصرية لما يملى عليها أو جرى الاستهتار بفكرة الدولة الوطنية كلها كانت النتائج وخيمة.
بقدر استيعاب التجارب والعمل على تجنب أخطائها بوسع مصر أن تتطلع بثقة إلى مستقبلها.
التحدى يستدعى الإلحاح مرة بعد أخرى على أولوية الأفكار والتصورات والرؤى والبرامج.
لم يعد هناك وقت لتأخر إضافى فى إجابة سؤال الرؤية فهو يداهمنا كما يقال.
التفلت البرلمانى نفسه يداهمنا بأخطاره وأسئلته الإضافية.
كلام بعض النواب عن تعديل الدستور قبل تطبيقه مشروع اضطراب مؤكد لا تحتمله مصر.
غياب أى حضور جدى للأحزاب تحت قبة البرلمان إعلان بشبه إفلاس الحياة السياسية.
هذا يسحب من هيبة الدولة.
المعضلة المزدوجة أن المجلس النيابى الجديد غير مرشح لأى اختراق إيجابى فى أى ملف ولا الجهاز التنفيذى قادر على بناء السياسات العامة بحكم تكوينه البيروقراطى.
المعنى أن الحيوية السياسية عند حدود الخطر.
هذا يهدد مؤسسات الدولة على الوفاء بمهامها.
البيروقراطية ليست حلا والأمن ليس بديلا.
كلاهما ضرورى لكن تحت سقف سياسى.
بقدر ارتفاع السقف السياسى يتأكد حضور الدولة الحديثة وتثبت هيبتها.
وبقدر العدل الاجتماعى يترسخ الولاء لها فى بنية مجتمعها الذى قام بثورتين من أجل حقه فى حياة إنسانية كريمة.
المجلس النيابى بتكوينه هو مجلس رجال الأعمال.
المعنى أن تشريعاته قد تصادم الأغلبية الساحقة من المواطنين.
هيبة الدولة مسألة مؤسسات وشرعية معا.
إذا افتقدت أى مؤسسة شرعيتها فهيبة الدولة كلها تحت التهديد.
لا بديل ممكنا الآن لخفض تكاليف التشوه البرلمانى سوى البدء فى حوار وطنى واسع يؤسس لدولة دستورية حديثة.