مئوية آخر العمالقة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 14 يناير 2018 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
«لن يتركونى أبدا».
كانت عبارته قاطعة وهو يتوقع أن يلاحقوه حتى الموت «قتيلا أو سجينا أو مدفونا فى مقبرة مجهولة».
بدت الكلمات ثقيلة على الابن الصبى وهو يستمع إليها ذات مساء من عام (١٩٦٩) عند ذروة حرب الاستنزاف ـ هكذا روى «خالد عبدالناصر».
فى الكلام إدراك لطبيعة الدور الذى يلعبه والحرب التى يخوضها وأن التخلص منه يدخل فى صميم الصراع على القوة والنفوذ بالمنطقة كلها.
وفيه ظلال تقارير ربما يكون قد قرأها فى ذلك اليوم البعيد عن محاولات جديدة لاغتياله.
هناك شبهات أنهم وصلوا إليه بـ«السم»، ولكنها غير مؤكدة ولا دليل قاطع عليها.
كانت جنازته الأكبر فى التاريخ الإنسانى كأنها بحر من الدموع ــ حسب تعبير وكالات الأنباء العالمية وقتها.
بصورة مختلفة تحققت نبوءته، فقد جرت أطول حرب على مشروعه حتى تكون يوليو آخر الثورات وهو آخر الزعماء ــ بنص تعبير وزير الخارجية الأمريكية الأسبق «هنرى كيسنجر».
رغم ضراوة الملاحقة وحملاتها بقيت يوليو فى الذاكرة العامة بأحلامها التى أجهضت وقيمها التى أهدرت.
لم تولد يوليو من فراغ ولا كانت زعامته محض مصادفة.
لا أحد يخترع الثورات فكل ثورة بنت تحديات زمانها، ولا أحد يؤلف الزعامات فلكل دور استحقاقاته وأثمانه.
عقب الحرب العالمية الثانية تصاعدت نداءات التحرر الوطنى فى جنبات العالم الثالث، وكانت مصر ترزح تحت الاحتلال البريطانى وسيطرته على قرارها السياسى رغم انسحابه إلى مدن القناة وفق معاهدة (١٩٣٦).
فى مطلع الخمسينيات ألغى «مصطفى النحاس» زعيم الوفد تلك المعاهدة التى وقعها بنفسه، وبدت مصر أمام منعطف جديد يؤذن بغروب صفحة كاملة من التاريخ المصرى.
تصاعدت نداءات الجلاء بالسلاح وتدفقت إلى الإسماعيلية مجموعات الفدائيين بعد أن سدت أبواب التفاوض.
بحسب شهادات متواترة أهمها ما وثقه «كمال الدين رفعت» فإن دور الضباط الأحرار كان جوهريا فى ذلك التطور تخطيطا وتدريبا وتسليحا.
بيقين لم يأت «جمال عبدالناصر» ورفاقه إلى السلطة من خارج سياق الحركة الوطنية ولا كانت لهم أهداف تتعدى مطالبها الرئيسية.
كان سياسيا قبل أن يكون عسكريا، مر على «مصر الفتاة» و«الإخوان المسلمين» و«حدتو» لكنه لم يلتحق بعضوياتها.
وهو يقاتل فى فلسطين كتب بخط يده «لقد فقدنا ثقتنا فى حكامنا وقياداتنا»، وبدا مقتنعا أن التغيير من القاهرة وعندما رجع إليها أعاد بناء الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار.
كان النظام الملكى يتهاوى ولم يبق غير أن يتقدم أحد لإزاحته.
بأى تعريف كلاسيكى لما جرى ليلة (٢٣) يوليو فهو انقلاب عسكرى.
غير أن الحدث الكبير لم يستغرق وقتا حتى استحق صفة الثورة.
كان عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» أول من أطلق وصف الثورة على (٢٣) يوليو، بعدما كانت تسمى فى بداياتها بـ«الحركة المباركة».
استدعاء الصفات من احتياجات مجتمعاتها.. وقد كانت مصر بحاجة ماسة إلى التغيير الجذرى فى بنية العلاقات الاجتماعية والتوجهات الاستراتيجية، حتى يمكنها أن تلتحق بعصرها وتستحق الانتساب إليه.
الثورات تجهض عندما يقف زخمها فى منتصف الطريق.
لا القديم أزاحته ولا الجديد بنته.
وقد كانت يوليو الثورة الوحيدة فى التاريخ المصرى الحديث كله التى طرحت مشروعا كاملا للتغيير.
الثورة العرابية فى ثمانينيات القرن التاسع عشر أجهضت سريعا واحتلت مصر ونفى زعيمها.
وثورة (١٩١٩) أحدثت اختراقا كبيرا فى قواعد اللعبة السياسية دون أن تتمكن لأسباب كثيرة من تحقيق هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور.
جرى إجهاض الأول والتلاعب بالثانى.
كما لم تنجح ثورة «يناير» فى بناء نظام جديد ينسخ ما قبله ويلبى دعوات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
أيا كانت حدة الانتقادات وفداحة الأخطاء لا توجد ثورة مصرية أخرى تضاهى يوليو فى عمق الإنجاز وحجم التحول وقدر الأثر ولا توجد زعامة فى التاريخ الحديث كله تضارع «جمال عبدالناصر».
بقوة الفعل التاريخى، لا الافتراضى، اكتسب شعبية استثنائية امتد أثرها عبر العقود الطويلة.
حسب تعبير شهير للإمام «أحمد بن حنبل» عندما اشتدت محنته: «بيننا وبينكم الجنائز».
هذا ليس كلاما عاطفيا مرسلا فشرائط الجنازة المسجلة تكشف وتبين دون ادعاء عمق الحزن العام عليه لدرجة تكاد ألا تصدق.
وقد كان مثيرا طغيان صورته فى أعمال شعرية وروائية ومسرحية وغنائية بامتداد العالم العربى كله بعد رحيله، حيث مصداقية الرؤية فى اختبار الزمن.
كان قد مات فى الثانية والخمسين من عمره، لكن المعنى لم يذهب معه إلى قبره ولا السجالات حوله خفتت حتى مئويته التى تحل اليوم.
لكل ثورة سياقها التاريخى، وأى كلام خارج هذا السياق تهاويم فى الفضاء.
يوليو لعبت دورها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بقدر ما لعبت ثورة (١٩١٩) دورها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى.
«يناير» ثورة هذا الزمان حيث طفرة الاتصالات والمعلومات، حتى لو بدا الميلاد عسيرا والجنين مخطوفا.
رغم أى محاولات لاصطناع القطيعة بين ثورات مصر، إلا أن كلا منها تتصل بما سبقها وتؤسس لما بعدها.
فى الذاكرة الجماعية يوليو هى الثورة التى انحازت وغيرت، قالت وأنجزت، انتصرت وألهمت، انهزمت دون أن تستسلم وحوربت دون أن تفقد بريقها.
فى سنوات يوليو أطلق «عبدالناصر» أوسع عملية حراك اجتماعى بالتاريخ المصرى كله، نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها.
لم يتحدث عن العدل الاجتماعى كصدقات تدفع بل كحقوق تستحق، وقد أخلص للمصريين العاديين الذين خرج من صفوفهم.
قيمة «عبدالناصر» الحقيقية أنه كان يصدق نفسه ويصدقه الناس.
عندما يتحدث عن حقوق العاملين فإن سياساته تسبقه.
قد تتفق أو تختلف معه لكنك لابد أن تستشعر اتساقا كبيرا فيما يقول ويفعل.
هناك انحيازات تحررية وقومية التزم بها بلا مساومة عليها وكانت نزاهته الشخصية من أسباب رسوخ صورته فى التاريخ.
غير أن التناقض كان فادحا بين اتساع المشروع وضيق النظام.
بشجاعة ومسئولية راجع أخطاء تجربته التى أفضت إلى هزيمة يونيو (1967) فى محاضر رسمية، وكان من بينها تغول مراكز القوى فى بنية الدولة وانحرافات جهاز المخابرات وتدخل الجيش فى غير مهامه الطبيعية مما أفقده احترافيته.
حاور قيادات الحركة الطلابية الغاضبة على أسباب الهزيمة داعيا إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات وصاغ بيان (٣٠) مارس وفق تطلعاتها للمشاركة فى صناعة القرار السياسى.
ساعد ذلك كله أن يقف البلد فى وقت قياسى على قدميه من جديد.
أعاد بناء القوات المسلحة، التى دخلت حرب استنزاف امتدت لثلاث سنوات على أسس منضبطة وحديثة، ورفع من منسوب الأمل العام، بما دعا الشاعر السودانى الراحل «محمد الفيتورى» إلى وصف ما حدث بـ«جلال الانكسار».
ذلك تعبير يقترب من العبارة الشهيرة التى وصفه بها الشاعر العراقى الكبير «محمد مهدى الجواهرى»: «عظيم المجد والأخطاء».
للمجد أسبابه الصريحة وللأخطاء أثمانها الفادحة.
فى اللحظة التى قال فيها: «رئيس الجمهورية.. تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية» لامس عمق الوطنية المصرية وكبرياءها الجريح، كما لم يلامسها أحد آخر فى العصر الحديث كله.
وفى اللحظة التى أعلن فيها من الجامع الأزهر الشريف نداء المقاومة «سنقاتل» دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وألهم حركات التحرير فى العالم الثالث كله.
عندما ولدت زعامته فى أتون حرب السويس مضى قدما فى بلورة مشروعه، وأى ثورة بلا مشروع لا تقدر على أى مواجهة ولا تصنع أى إلهام.
بقوة مشروعه اكتسب صفة «آخر العمالقة» ــ بتعبير الكاتب الأمريكى «سيروس سالزبرجر».
قوة «عبدالناصر» الكامنة فى مشروعه السياسى، لا فى ثغرات نظامه، وذلك سوف يعيش طويلا مئوية بعد أخرى.