النكبة والمصيدة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 15 مايو 2016 - 11:15 م
بتوقيت القاهرة
لا ضياع فلسطين آخر النكبات ولا التخلى عن «تيران» و«صنافير» نهاية المصائد.
ما بين جرح نكبة (١٩٤٨) الذى لم يندمل أبدا وشبح مصيدة (٢٠١٦) الذى ينذر بعواقب استراتيجية لا سبيل للتخفيف من وطأتها يطرح السؤال نفسه: هل ندرك حقا تاريخنا المعاصر، أحلامه المحبطة ودروسه القاسية؟
أسوأ ما تتعرض له أية أمة أن تخفت ذاكرتها إلى حد نسيان معاركها التى دفعت أثمانها دما وألما.
ما يوصف فى الخطاب الإسرائيلى بـ«عيد الاستقلال» هو نفسه «ذكرى النكبة».
لم يكن هناك تنبه حقيقى فى العالم العربى إلى حجم الخطر ومواطنه حتى داهمته المذابح الصهيونية ضد فلسطينيين عزل من السلاح لاستدعاء التهجير الجماعى من أراض هى أرضهم حاملين معهم مفاتيح بيوت لم يقدر لهم أن يعودوا إليها.
تحت صدمة النكبة جرت مراجعات واسعة لأسبابها، تطرقت لأوجه الخلل فى بنية المجتمعات العربية بالفحص والتشريح، وانتقدت الفكر العربى على نحو غير مسبوق، نشأت حركات سياسية من فوق أنقاضها، وجرت تغييرات جوهرية بنظم الحكم.
لم يعد هناك شىء على حاله والتغير شمل كل ما كان يتحرك فى العالم العربى.
أية مراجعة على شىء من الجدية تكتشف بيسر أن القضية الفلسطينية كانت نقطة المركز التى تجرى حولها التفاعلات الصاخبة وتصطدم الإرادات المتنافسة، أو محور كل حركة وفكرة وحوار ينظر إلى المستقبل.
كانت ثورة (٢٣) يوليو إحدى تجليات ما بعد النكبة.
بعد عودته من ميادين القتال فى فلسطين باشر الضابط الثلاثينى «جمال عبدالناصر» إعادة بناء تنظيم «الضباط الأحرار» وتشكيل هيئته التأسيسية والتوجه إلى إطاحة النظام كله بمقوماته وقصوره فى «عابدين» و«الدوبارة» و«لاظوغلى».
بخط يده كتب فى مذكراته الشخصية تحت وهج النيران فى فلسطين: «لم تكن حربا، فلا قوات تحتشد، ولا استعدادات فى الأسلحة والذخائر، لا خطط قتال، ولا استكشافات، ولا معلومات!».
تبدت المفارقة التراجيدية فى القصة كلها أن بعض ما انتقده عام (١٩٤٨) تكرر معه عام (١٩٦٧).
كان ذلك جرحا لم يفارقه حتى رحيله رغم حرب الاستنزاف وتضحياتها وإعادة بناء الجيش من تحت الصفر ليحرر سيناء بالقوة.
ما بين النكبة والنكسة بدا التناقض فادحا بين ضيق النظام واتساع المشروع.
فى ضيق النظام نشأت ظواهر بالغة السلبية نحرت بنيته ومهدت للإجهاز عليه مثل تغول بعض المؤسسات الأمنية كأنها «دولة داخل الدولة» بتعبير «عبدالناصر» نفسه.
بعد النكسة دعا إلى «المجتمع المفتوح» و«دولة المؤسسات» و«الحوار مع الأجيال الجديدة» التى ترفض أسبابها وتطلب توسيع المشاركة السياسية، لا قمعها والزج بها خلف قضبان السجون، غير أن العمر لم يطل به لوضع برنامجه الجديد تحت التنفيذ.
على النقيض تماما كان مشروع «يوليو» رحبا فى أفكاره وسياساته، اتسع لقضايا عصره التى تبناها وخاض معاركها فى محيطه العربى وقارته الأفريقية وعالمه الثالث.
بعد حرب «السويس» (١٩٥٦) خرجت مصر، المستعمرة السابقة، كقوة توضع فى كل حساب وباتت عاصمتها القاهرة إحدى المراكز الدولية التى لا يمكن تجاهل رأيها.
للأدوار تكاليفها، فلا يوجد دور مجانى فى التاريخ.
من السويس حيث تأميم قناتها وخوض حرب غير متكافئة مع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية بالإضافة لإسرائيل إلى دمشق حيث أول وآخر مشروع وحدوى عربى لم تغب القضية الفلسطينية عن حركة الأحداث الكبرى.
كل شىء ارتبط بها على نحو وثيق، كأنه استطراد لصراعاتها فى ميادين أخرى.
فيما بعد قال زعيم «يوليو»:«إن أول دبابة انفصال كانت هى أول دبابة دخلت سيناء».
نكسة يونيو كانت النكبة الثانية بالنظر إلى توظيفها لتكريس مشاعر الهزيمة رغم النصر العسكرى فى حرب أكتوبر (١٩٧٣).
كان أسوأ ما جرى بعد «أكتوبر» أن نتائجها السياسية تناقضت مع بطولاتها العسكرية، وأن الذين عبروا على الجسور لم يكونوا هم الذين جنوا جوائزها بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
وفق المعاهدة المصرية ــ الإسرائيلية عادت سيناء بلا سيادة كاملة، وشملت ملاحقها العسكرية قيودا صارمة على السلاح فى المنطقة (ج) التى تدخل فيها جزيرتى «تيران» و«صنافير».
لم تبد السعودية أية مسئولية عن استعادة الجزيرتين لا حربا ولا تفاوضا، كأن هناك من يحارب ويضحى ويفاوض بالنيابة.
كان أخطر ما تمخضت عنه «كامب ديفيد» عزلة مصر عن عالمها العربى، وتآكل أوزانها فى إقليمها وقارتها وعالمها، وسيادة لغة تستهجن الانتماء العربى أو أى دفاع عن القضية الفلسطينية.
هكذا بدأ الانهيار فى المكانة المصرية واستباحة أمنها ومصالحها مازلنا ندفع فواتيره حتى الآن.
تلك كانت النكبة الثالثة التى شتت العالم العربى.
خسارة المعانى الكبرى تفضى مباشرة إلى السقوط فى المصائد واحدة إثر أخرى.
كانت الحرب الأهلية اللبنانية عام (١٩٧٤) مصيدة واحتلال بيروت من القوات الإسرائيلية عام (١٩٨٢) إحدى نتائج الوقوع فيها.
بإرادة المقاومة إجبرت القوات الإسرائيلية على الانسحاب غير أن الصراعات المذهبية لا تسمح رغم كل التضحيات بتجاوز أية مصائد جديدة قد تدفع البلد إلى مجهول مرعب.
وكان الاجتياح العراقى للكويت مطلع التسعينيات مصيدة أخرى أذنت بانهيار النظام الإقليمى العربى وعجزه شبه الكلى عن مواجهة تحدياته وأفسحت المجال تاليا لاحتلال بغداد عام (٢٠٠٣).
بانهيار مشرقه دخل الأمن العربى كله فى انكشاف تاريخى توارت خلفه القضية الفلسطينية وبات مطلوبا التخلص من صداعها.
تتحمل القيادة الفلسطينية المسئولية الأولى فى الوقوع بـ«مصيدة أوسلو» منتصف التسعينيات التى شهدت سلاما بلا أرض، بتعبير المفكر الفلسطينى الراحل «إدوارد سعيد» أو احتلالا منخفض التكاليف لا يعيد أرضا ولا يحقق سلاما.
بصورة أو أخرى بدت المصيدة الفلسطينية فى «أوسلو» نكبة رابعة بآثارها السلبية على وحدة الشعب والقضية والانخراط فى احترابات أهلية بين رام الله وغزة أو فتح وحماس.
فى كل أزمة مصيدة وعند كل منحنى نكبة.
قد تقسم الدول العربية من جديد بعد مائة عام من توقيع اتفاقية «سايكس ــ بيكو» ببلطات القوة لا الخرائط الجاهزة.
هذا سيناريو وارد فى كل حساب.
وقد تدخل مكوناتها فى احترابات أهلية بلا نهاية.
وهذا سيناريو آخر على ذات القدر من الخطورة.
بأى استشراف للنتائج الاستراتيجية، التى سوف تترتب على التخلى عن «تيران» و«صنافير»، فإننا أمام مصيدة توسيع «كامب ديفيد» ودمج إسرائيل فى معادلات المنطقة دون أدنى التزام بأية تسوية للقضية الفلسطينية.
المعنى كل شىء مقابل لا شىء.
بأثر الاتفاقية تصبح السعودية دولة جوار مع إسرائيل، وقد بدأت الاتصالات الدبلوماسية والاستخبارتية والعسكرية تخرج للعلن.
ذلك سوف ينال من أية رهانات لديها فى قيادة العالم العربى، فالقضية الفلسطينية رمانة الميزان فى وزن الأدوار والأحجام.
وبآثر الاتفاقية سوف تتراجع أية رهانات ممكنة على الدور المصرى فى إقليمه.
وتلك خسارة استراتيجية فادحة تنال فى وقت واحد من أمنها القومى وهيبتها وأى آمال معلقة عليها.