غريزة الصحافة.. حديث مع هيكل
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الإثنين 15 يونيو 2015 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
بعد يومين من جراحة استغرقت أكثر من ساعتين فى العاصمة البريطانية لندن سأل:«إيه الأخبار؟».
السؤال فى ظروفه أوحى أنه يغالب وجع الجراحة بغريزة الصحافة كأن نبض الحياة هو بالضبط تدفق الأخبار.
فى الصحافة كل شىء يبدأ بالخبر، «إذا لم يكن صحيحا تفقد المهنة احترامها».
و«أية رؤية تحليلية لا تستند على قاعدة معلومات مدققة موضوع فى الإنشاء السياسى على أفضل الأحوال».
بنى تاريخه المهنى الذى صنع صيته على تتبع الأخبار واستقصاء جوانبها المختلفة والبحث فى الظلال عن قصص جديدة.
منذ بداياته الأولى عود نفسه على التدوين والتوثيق لكل ما له قيمة، وكان ذلك ولعا بالأخبار قبل أى شىء آخر.
فى رأيه أن «التدوين يحفظ لخلفيات الأخبار طزاجتها حتى لا تبهت فى الذاكرة».
الوثائق نفسها، فضلا عن قيمتها التاريخية، «تكشف ما هو خاف وتنير ما هو ملتبس فى حركة الأخبار».
هذا ليس حديثا فى الماضى بقدر ما هو إطلال على المستقبل، فـ«لا شىء يولد من فراغ ولا قصة خبرية بلا تاريخ».
أخلص لأصول مهنته فاستقرت مكانته التى لم تتزحزح بتعاقب الأزمنة.
وهو يسأل عن الأخبار فإنه يقاوم ما يؤلم بما يهوى لكنه يطلب فى الوقت نفسه أن يطمئن على بلده ومستقبله.
أسوأ خبر ألا يكون هناك خبر، إذ إن «توقف صناعة الأخبار فى أية دولة يعنى أن حيويتها فى خطر ومستقبلها غامض».
فى أول توقيت حدده طبيبه البريطانى لقدرته على تحمل مشقة السفر وضع نفسه فى طائرة عادت به إلى القاهرة.
رغم العلاج الطبيعى الذى يلزمه بضوابط صارمة حتى يكتمل شفاؤه فإن وجوده بالقرب من حركة الأخبار شغف بمهنته لا مثيل له.
الصحافة غريزة أساسية لا تولد مع الإنسان كأية غريزة أخرى لكنها عندما تتمكن من صاحبها تحكم كل شىء فى حياته.
بالنسبة لصحفى يخلص لمهنته فإن سؤاله الأول: «لماذا تراجعت الصحافة المصرية؟ «.. وسؤاله الثانى: «هل هناك مستقبل ينتظرها؟».
السؤالان شغلا باله فى رحلة المرض والعلاج.
ولم يكن مستعدا لأية إجابات سهلة عن أسئلة صعبة.
حاول بالأرقام أن يشرح عمق الأزمة التى تعترض الصحافة المصرية فى لحظة حرجة من تاريخها.
«بالقياس على أرقام التوزيع قبل أربعة عقود فإن هناك مفارقات حادة وإشارات لا تخفى».
«عدد السكان زاد نحو ثلاث مرات عما كان عليه عام (١٩٧٤) بينما التوزيع الإجمالى للصحف الآن انخفض إلى ما دون النصف تقريبا رغم أن معدلات الأمية انحسرت ومستويات الدخول ارتفعت».
عندما خرج من «الأهرام» فى ذلك العام البعيد كان هناك تنافسا حقيقيا بين«الأهرام» الأسبوعى و«أخبار اليوم» على كسر حاجز المليون نسخة.
«لكل صحيفة شخصيتها التحريرية التى تختلف عن الأخرى فى صياغة الأخبار والعناوين وتوضيب الصفحات وطبيعة المواد المقدمة لجمهورها».
«أرقام التوزيع نصف الحقيقة».
«نصف الحقيقة الآخر الذى نخفيه الطاقة القرائية للصحيفة والوقت الذى يقضيه القارئ معها والخدمة التى يطلبها».
«ما حجم المشتركين الدائمين؟».
«أين مناطق البيع؟».. فـ«قارئ الصعيد غير قارئ الإسكندرية».
«لماذا يزيد التوزيع فى منطقة ويتراجع فى أخرى؟».
«ما معنى الأرقام كميا ونوعيا على الخرائط الاجتماعية؟».
«هذه أسئلة أساسية فى نصف الحقيقة الذى نخفيه».
«فى منافسات «الأهرام» و«أخبار اليوم» بالقرب من منتصف السبعينيات تراوحت الطاقة القرائية للنسخة الواحدة بين رقمى (٤.٥) و(٧) قراء».
«فى أيام كثيرة تراجعت الأهرام لكن طاقتها القرائية كانت أكبر».
«الجمعة ذروة الأهرام والسبت ذروة أخبار اليوم وكان الأحد هو يوم التنافس الضارى، الأخبار تحاول أن تأخذ زخم السبت إلى اليوم التالى بينما الأهرام تحاول أن توقف النحر وتستعيد السبق من جديد».
«المنافسة جوهر العمل الصحفى».
«المثير الآن أن مستويات التنافس قلت رغم زيادة أعداد الصحف المطبوعة عما كان قبل أربعين سنة».
«رغم الكفاءات الصحفية الشابة التى تعلن عن نفسها فإن الظروف العامة لا تمنحها ما تستحقه من فرص للتنافس بقواعد والإضافة بتأثير».
«قوة الصحافة من تنوع مدارسها ولا قيمة لأى دور إلا بقدر ما يضيف إلى الخبرات المتراكمة».
و«هذا تحد مهنى صعب».
«الطاقة القرائية تحد آخر».
«لماذا تزيد؟.. ولماذا تنخفض؟».
«فى مطلع هذا القرن نجحت صحيفة ظروفها الاقتصادية صعبة ونسخها المطبوعة محدودة أن تكسر أية أرقام مفترضة لطاقتها القرائية، فقد كان قراء النسخة الواحدة من جريدة العربى بين ستة إلى سبعة قراء»..«اكتسبت تأثيرها من اتساع طاقتها القرائية لا من أرقام توزيعها».
القيم المهنية تحد ثالث.
«انتهاك قيم الحوار العام أحد أسباب تراجع الصحافة المصرية».
«بصورة أو أخرى فهناك إعراض من القارئ عن الكلمة المكتوبة».
«الكلمة المكتوبة فقدت صدقيتها وفى بعض الحالات انتهكت عذريتها».
«أما السبب الرئيسى لفداحة التراجع فهو تأثير شبكات التواصل الاجتماعى والتليفزيون على قراء الصحافة المطبوعة».
«هنا صلب الأزمة».
«تأمل تجارب الماضى قد يساعدنا على النظر إلى المستقبل».
«ظاهرة أخبار اليوم تستحق التوقف عندها، فقد وزعت فى عددها الأول أكثر من مائة ألف نسخة، وهو رقم ضخم بالنظر إلى عدد السكان قرب منتصف الأربعينيات من القرن الماضى».
«تأثرت أخبار اليوم بمدرسة الصحفى البريطانى بيفر بروك فى توضيبها ومحتواها وبدت صيغة مصرية من الصنداى اكسبريس».
«كانت نوعا من الصحافة الشعبية أقبل عليها جمهور القراء».
فى أوقات مقاربة دعا اللورد «نورثكليف»، وهو صحفى بريطانى شهير آخر، إلى المقال السريع والخبر السريع تأثرا بالنموذج الأمريكى فى الحياة ورائحة ومذاق عصره.
«كل شىء سريع من الخطوة إلى الوجبة إلى المعلومات والفكر، فالخبر لا يزيد على ٢٥٠ كلمة والمقال فى عدد مماثل من الكلمات».
«أرجو أن تتذكر أن عهد اللورد نورثكليف انتهى مع بداية التجربة الهائلة لتيد تيرنر فى الـCNN مطلع ثمانينيات القرن الماضى بتعبير فرانك جيلز رئيس تحرير الصنداى تايمز».
«لكل عصر إيقاعه ونحن نعيش الآن عصر الكلمة المسموعة».
«لكل زمن حواره وحوار هذا الزمن لا يتكلف شيئا لفك رموز ما هو مكتوب على ورق».
«إن أى مهتم بالشأن العام سوف يتابع الخبر صورا متلاحقة على الشاشات المضيئة، وهو يطلب من الكلمة أن تروى له قصة ما جرى على مهل لأن ذلك دورها».
«كل أسطح الحوادث مكشوفة تحت الومضات السريعة».
«الكلمة فى جريدة تفصل ما وراء الخبر وتروى مالا تستطيع الصور أن تصفه من دخائل ومشاعر».
«فى العصر الإلكترونى أريد أن أعرف ما الذى دار همسا فى أية لقاءات قمة لها أهمية بعد أن رأيت الصور الملونة على الهواء مباشرة».
«هذه كلها استخلاصات توصلت إليها مناقشات مستفيضة فى صالات تحرير صحف بريطانية شاركت فى بعضها مع بداية العصر التليفزيونى».
و«هذا ما أدركته كبريات الصحف العالمية وعملت على أساسه فى العصر الإلكترونى».
«استعادت ثقة قرائها وارتفعت من جديد أعداد توزيعها كالواشنطن بوست والنيويورك تايمز الأمريكيتين بالتحديد».
شعار النيويورك تايمز يلخص فلسفة الصحافة الجديدة فى عصر مختلف:«كل ما يساوى أن ينشر».
«الأمر نفسه فى الصحافة البريطانية فقد زاد توزيع الديلى تيلجراف والأوبزرفر ونجحت الإندبندنت فى تجاوز أزماتها المالية».
«راهنت كبريات الصحف العالمية على أن ما فقدته الكلمة بالجدة تعوضه بالعمق».
«المثير أن التايمز لم تحقق النجاح ذاته رغم أن ملاكها حولوها إلى صحيفة تابليود بحثا عن شىء من الإثارة يرفع معدلات التوزيع».
«العصر اختلف وتحدى الصحافة استجدت عليه حقائق لابد من الاستجابة لها حتى ندخل سباقها من جديد».
.. هكذا تحدث الأستاذ «محمد حسنين هيكل» وهو يتقوى فى رحلة العلاج الطبيعى بغريزة الصحافة التى هى عنده معنى الحياة.