لماذا كانت ثورة يناير محتمة؟
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 16 يناير 2022 - 9:00 م
بتوقيت القاهرة
بدا نظام «حسنى مبارك» عند عام (2005) كأنه استنزف طاقته على البقاء.
أوحت مشاهد الانتخابات الرئاسية أننا قرب النهاية، لكن عمر النظام امتد لنحو خمس سنوات أخرى بفضل اتساع هامش حريات التعبير.
كانت تلك حقيقة، فالحريات الصحفية والإعلامية رفعت سقف الآمال المعلقة على إصلاح النظام من الداخل.
عندما تبددت أية آمال بالتزوير الفاحش للانتخابات النيابية عام (2010) انفسح المجال واسعا لعاصفة يناير (2011).
هناك من توقع «ثورة جياع»، بالنظر إلى تزايد الاحتجاجات أمام المخابز ومستودعات أنابيب الغاز، أو «انتفاضة خبز جديدة» تماثل يناير (١٩٧٧)، أو «حريق قاهرة آخر» على النحو الذى جرى فى يناير (١٩٥٢)، أو تغيير النظام بتدخل الجيش كما حدث فى (23) يوليو.
لم يخطر ببال أحد إطاحته بانتفاضة شعبية مدنية تدعو إلى نظام ينسخ الماضى ويلتحق بعصره.
هبت عاصفة «يناير» من خارج السياق السياسى، الذى اخترقت أحزابه وهمشت منابره.
لم يكن يعنى تدجين السياسة أن النظام فى منأى عن التغيير.
اقتحمت مسرح الحوادث أجيال شابة بروح جديدة وخيال مختلف، أصابت وأخطأت، لكن روحها تعلقت بفكرة الثورة، التى حسمت خيارها قطاعات جماهيرية واسعة نالت المظالم الاجتماعية من أبسط حقوقها فى الحياة، فيما الفساد يستشرى ببنية الحكم.
لعبت الحركات الاحتجاجية، وفى مقدمتها الحركة المصرية للتغيير «كفاية» والجمعية الوطنية للتغيير، أدوارا جوهرية فى معارضة سيناريو التوريث للابن والتمديد للأب وصنع مسار سياسى للغضب المتصاعد يتبنى التحول إلى الديمقراطية وبناء دولة مواطنة وعدالة وقانون.
كانت النذر تتجمع فى الأفق المحتقن.
لخّص «مشروع توريث الجمهورية» من «الأب» إلى «نجله الأصغر» أزمات النظام كلها ووضعه مباشرة أمام النهايات المحتمة.
كان ذلك المشروع تعبيرا عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين فى صلب القرارين الاقتصادى والسياسى بزواج بين السلطة والثروة.
لم يكن ممكنا بأى حساب توريث الحكم بغير أثمانٍ باهظة واضطرابات لا قبل لأحد بها.
قيمة «يناير» فى التاريخ أنها عكست الإرادة العامة التى لا سبيل لتحديها بقدر ما طمحت إلى الانتقال لعصر جديد أكثر عدلا وحرية وكرامة إنسانية.
قبل العاصفة تبدت حالة غضب بين الأجيال الجديدة وجماعات المثقفين وكل ما له قيمة فى البلد، استقطبت المشاعر العامة حتى بدا النظام كله فى العراء السياسى.
رغم الاحتقانات السياسية والاقتصادية التى دعت الطبقة الوسطى والفئات الأكثر احتياجا إلى إعلان تذمرها، فقد كان «مشروع التوريث» هو نقطة التفجير التى استدعت كل الغضب إلى كل الميادين.
لم يكن الجيش فى وارد الصدام مع الإرادة الشعبية لتمرير «التوريث»، أو الدفاع عن نظام فقد شرعيته.
ولم يكن بوسع الأمن توفير أى ضمانات لتمرير هذه الخطوة الخطيرة دون اهتزازات عميقة قد تأخذ البلد إلى المجهول.
فى لحظات النهاية بدا النظام بلا ظهير سياسى، فقد انهار حزب السلطة مع أول هتاف فى ميدان «التحرير».
ما هو مصطنع يسقط فى كل اختبار.
لم يكن «الحزب الوطنى الديمقراطى» حزبا حقيقيا بقدر ما كان تجمعا لأصحاب المصالح يلتصق بالسلطة، أى سلطة.
كان مزيجا من بيروقراطية الدولة ونفوذ الأمن.
توسع الدور الأمنى خارج طبيعة مهامه وتدخل على نحو غير مسبوق فى الحياة العامة من البحث العلمى إلى اختراق الأحزاب إلى الاقتصاد ومشاريعه.
فى لحظة الثورة بدا الانكشاف كاملا للبنية السياسية المصطنعة.
دفع النظام ثمنا مستحقا لاختراق الأحزاب السياسية من داخلها، وتفجيرها فى بعض الحالات، ومنعها من ممارسة أى دور يتجاوز مقراتها.
بقدر ما تكون الحياة السياسية صحية وقابلة لاكتساب الثقة العامة فإن قواعد النظم تتأسس على أرض صلبة.
كان أسوأ ما حدث التعويل شبه المطلق على الولايات المتحدة فى ضمان استقرار النظام وتوريث النظام الجمهورى من الأب إلى الابن.
ظل الاعتقاد طوال الوقت جازما بأن المستقبل المصرى يصنع فى البيت الأبيض حتى إن الدكتور «مصطفى الفقى» سكرتير رئيس الجمهورية الأسبق للمعلومات قال ذات مرة: «إن الرئيس القادم سوف يكون اختيارا أمريكيا بموافقة إسرائيلية».
لم يطل الوقت حتى تبددت أسطورة التعويل على الإدارة الأمريكية فى ضمان مستقبل النظام، وبدت وهمًا من الأوهام فى الأيام الأولى لـ«يناير».
الثورات ليست مؤامرات حتى لو بدا أن هناك من تآمر لاختطافها، أو حرفها عن مسارها وأهدافها.
إعادة قراءة ما جرى من تفاعلات وحسابات فى سنوات مبارك الأخيرة تساعد باليقين على إدراك الأسباب الكامنة التى أفضت إلى إجهاض أهداف «يناير» واختطاف جوائزها من غير مستحقيها.
لا يعنى إجهاض الثورة نفى شرعيتها.
شرعية يناير فى حتميتها.
لم تهب عواصف التغيير مرة واحدة، ولا نشأت فجأة فى ميادين الغضب.
على مدى عشر سنوات كاملة تتالت التوقعات والنبوءات تحت الأفق المأزوم.
«مصر دخلت منطقة الزلازل السياسية».
كان ذلك توصيفا مبكرا فى (18) نوفمبر (2001) أطلقه المفكر اليسارى الدكتور «فوزى منصور».
بروح الفنان توقع السيناريست «محفوظ عبدالرحمن» بتوقيت مقارب ما قد يحدث غدا: «النمل الأبيض يقرض كرسى السلطان».
غير أن السلطان لم يكن بوارد الالتفات إلى أن عرشه على وشك أن يهوى بفعل بنية نظامه.
بنظرة إلى المستقبل توقع المفكر الاقتصادى «سمير أمين» فى أكتوبر (2003) أن «الإسلام السياسى هو البديل المطروح لكنه لن يخرج مصر من المأزق».
«دخلت مصر مرحلة المخاض المؤذن بميلاد جديد بإرادة الشعب، هذا ما يبدو جليا لك ذى عينين يبصر بهما».
هكذا لخص الموقف السياسى الحرج الفقيه القانونى الدكتور «هشام صادق» فى فبراير (2005).
فى أبريل من العام التالى توقع السفير «أمين يسرى» أن «مصر على أبواب يوليو جديد».
«لا سكة السلامة ولا سكة الندامة.. نحن الآن فى سكة اللى يروح ما يرجعش».
كان ذلك توصيفا متشائما للمخرج المسرحى «سعد أردش» فى فبراير (2007).
«للصبر حدود وثورة الفقراء تقترب».
كان ذلك استخلاصا مثيرا من قلب مجتمع الأعمال أطلقه «محمد فريد خميس» فى سبتمبر (2007).
«مصر فى حالة مخاض والمستقبل مجهول».
هكذا تحدث الدكتور «محمد كمال» من قلب الدائرة الضيقة حول نجل الرئيس.
«أتوقع اضطرابات اجتماعية».
وهكذا تحدث اللواء «فؤاد علام» بخبرة المؤسسة الأمنية فى مايو (2008).
«مصر مقبلة على ما لم تشهده من قبل».
كان ذلك توقعا مدويا للأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى يونيو (2008).
«حضرة النظام المستبد.. التغيير أو الانفجار».
كان ذلك إنذارا أخيرا فى (9) يناير كتبه الدكتور «محمد أبوالغار» قبل انفجار الحوادث بأسبوعين فى (25) يناير (2011).