سبعينية ثورة يوليو.. الأيام الأخيرة للملك!
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 17 يوليه 2022 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
خطر للمؤلف المسرحى والسيناريست الكبير الراحل «محفوظ عبدالرحمن» ذات يوم بعيد أن يكتب قصة الأيام الأخيرة للملك «فاروق» من (١٨) حتى (٢٦) يوليو (1952) فى مسلسل تليفزيونى طويل، حيث تتفاعل مشاعر وتضطرب أوضاع وتتغير دول.
من دواعى الدراما فى تلك الأيام المتقلبة، أن الملك فكر فى «انقلاب أبيض» يعلن بعده «ديكتاتورية عسكرية» تحكم بمراسيم لها قوة القانون وتأجيل أية انتخابات برلمانية إلى أجل غير مسمى ـ كما تكشف البرقيات البريطانية.
أجهضت حركة «الضباط الأحرار» تفكيره وسبقته قبل أن تذهب به إلى المنفى.
فى لحظة تصدع النظام الملكى قبل سبعين سنة بالضبط تبدت قدرات «جمال عبدالناصر» على إدارة المواقف الحرجة.
أطاح الحكومة ولم يكن يستهدف ذلك فى البداية عندما رآها تترنح أمامه.
وأطاح الملك الذى لم يكن مخططا مسبقا عندما رآه يتهاوى أمام نظره.
هناك قصةــ أوردها الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى كتابه الوثائقى «سقوط نظام»ــ تكشف طبيعة الموقف المضطرب، وكيف أديرت حساباته المتغيرة وحجم الدور الذى لعبه «عبدالناصر».
فى اللحظات الأولى للحركة قبل أن تعلن بيانها الأول سأل رئيس الوزراء «نجيب الهلالى»، الذى تمكن من الوصول هاتفيا إلى الصحفى الشاب المتواجد فى مقر القيادة بغريزة الصحافة: «هل تستطيع سؤالهم إذا كانوا يريدون من الوزارة أن تستقيل؟».
التفت «هيكل» إلى اللواء «محمد نجيب» ناقلا السؤال فظهرت الحيرة على ملامحه من مفاجأة سؤال لم ينتظره، وتولى «عبدالناصر» الإجابة قائلا: «له حق.. الأفضل أن تستقيل الوزارة».
«حاولت أن أتدخل برأيى لأول مرة فقلت ما معناه إن الهلالى رجل نزيه وقدير، وهو بالكاد عاد أمس الأول إلى رئاسة الوزارة بعد موقعة هائلة من أجل التطهير».
رد «عبدالناصر» بما مؤداه: «إن ذلك خارج الموضوع.. قل له إن ذلك طلبنا، وقد وفر علينا أن نحرجه بأن نطلبه منه».
قلت للأستاذ «هيكل» والحوار يستفيض حول تلك القصة ودلالاتها: «إنها مؤسسة لما بعدها، كان يمكن ليوليو أن تأخذ مسارا آخر لولا ما أبداه عبدالناصر من قدرة على اتخاذ القرار فى لحظته، فلم يكن هناك وقت للتفكير، والصباح يوشك أن يطل على بلد جرت فيه حركة عسكرية».
قال: «أردت أن أقول إنه رجل مختلف وقدراته غير عادية منذ اليوم الأول الذى ظهر فيه على المسرح السياسى».
لم تكن الحركة مفاجئة تماما، فقد كان الجو العام يشى بأن شيئا ما داخل الجيش يمكن أن يحدث فـ«هناك سخط منتشر بالجيش، ومن المحتمل أن يفضى إلى عملية من نوع ما«ــ حسب برقية الوزير البريطانى المفوض فى القاهرة «مايكل كرسويل» إلى وزير خارجيته «أنتونى أيدين» يوم الأحد (٢٠) يوليو (1952).
فى برقية أخرى أرسلت اليوم التالى إلى هيئة أركان الحرب الإمبراطورية فى لندن: «المعلومات التى لدينا أن هناك توترا على نطاق واسع فى الوحدات العسكرية المصرية واحتمالات العصيان واردة».
كان نجاح الحركة فى صبيحة (٢٣) يوليو ملغما باحتمال تدخل القوات البريطانية، التى تبلغ (١٢٠) ألف جندى فى معسكرات قناة السويس لإجهاضها.
بدا كل احتمال مرتهنا بمدى الدعم الشعبى الذى تحوزه الحركة.
إذا ما كان قويا فإنه قوة ردع لأى احتمال تدخل.
هذا ما حدث بالضبط.
بحكم الوثائق البريطانية كانت هناك خطة جاهزة يطلق عليها «روديو» لاحتلال القاهرة والدلتا والإسكندرية لدى أى طارئ مفاجئ وجرى الاستعداد لتنفيذها.
بحكم نفس الوثائق فإن الملك «فاروق» طلب التدخل العسكرى البريطانى لإجهاض التمرد عليه على نحو ما فعله عمه الخديو «توفيق» عام (١٨٨٢)، لكنه لم يتلق إجابة.
بدا «فاروق» مذعوراــ وفق برقية للسفير الأمريكى «جيفرسون كافرى»، الذى أخذ يهدئه دون جدوى.
لم تكن هناك أية معلومات لها قيمة عن توجهات الحركة، ولا من يمسكون بزمام الموقف فتبدت تناقضات فى الاستنتاجات والتصرفات.
بقوة الوثائق الدامغة فإن أى حديث عن صلة ما ربطت «الضباط الأحرار» بالاستخبارات الأمريكية محض كلام فارغ.
غابت بالكامل أية إشارات إلى «عبدالناصر»، أو أى أحد آخر من مجلس القيادة باستثناء «أنور السادات»، الذى كان وجها معروفا بعد محاكمته فى قضية مقتل «أمين عثمان»، واللواء «نجيب»، الذى صدر البيان الأول باسمه.
جرت اتصالات لضبط ردات فعل البريطانيين، ولم يكن الأمريكيون فى وضع يسمح لهم بتقدير موقف على قاعدة معلومات واضحة.
وفق الوثائق الأمريكية والبريطانية لم تكن هناك أية معلومات ذات قيمة عن شخصية اللواء «نجيب» صبيحة (٢٣) يوليو، رغم أنه انتخب رئيسا لنادى الضباط فى مواجهة صريحة مع رجال الملك، ورشح مرتين وزيرا للحربية فى حكومتى «حسين سرى» و«نجيب الهلالى»، غير أن الملك لم يكن مستعدا لإسناد هذه المهمة إليه مبديا غضبه كل مرة من مجرد ذكر اسمه.
كانت انتخابات نادى «الضباط» فى ديسمبر (١٩٥١) اختبارا للقوة والتأثير فى صفوف الجيش من قبل «الضباط الأحرار»، وكان حل مجلس إدارته المنتخب إيذانا على مواجهة محتملة تقترب مواقيتها.
وكان تغيير الوزارات بعد حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) حدثا متوقعا كل لحظة.
شهدت تلك الفترة إقالة وزارة «الوفد» برئاسة «مصطفى النحاس»، وتولى «على ماهر» مقاليدها، ثم جاء الملك بـ«نجيب الهلالى» بعد شهر واحد قبل أن يقيله هو الآخر فى ظروف مريبة بصفقة مالية بلغت مليون جنيه، دفعها «أحمد عبود» وسجلتها برقيات السفارة البريطانية، ثم كلف «حسين سرى» بحكومة رابعة قبل أن يعود لـ«الهلالى»، لكن حكومته لم تتمكن من الاجتماع، فقد أطاحت «يوليو» باللعبة كلها.
جرى ذلك كله فى أقل من سبعة أشهر.
بدا أن كل شىء يؤذن بالمغيب قبل أن تحل النهاية وتطوى صفحة حكم أسرة «محمد على».
وصف الأستاذ «أحمد بهاء الدين» المشهد الأخير لـ«فاروق» بالتفصيل وختمه بالعبارة التالية:
».. وتحركت المحروسة إلى عرض البحر.. والشمس تغرب.. وقال الذين سافروا معه.. إنه دخل مباشرة إلى حجرته.. وأخذ يبكى بكاء حارا، طويلا، مسموعا.. ندم على خطايا وآثام لا تغسلها مياه البحر ولا يطمسها ظلال الليل الذى أطبق على المركب».
كان هناك اتجاه قوى لدى عدد من ضباط القيادة لإعدام الملك، اعترض «عبدالناصر»، وفى ذاكرته الحكمة التى انطوت عليها رواية «قصة مدينتين» لـ«تشارلز ديكنز» من أن الدم يجلب الدم.
عندما سقط الملك، صعد رجل آخر إلى المسرح السياسى ليغير وجه التاريخ فى مصر وعالمها العربى.