مبادرات إبداعية في غزة
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
على الرغم من كل ما تعرضت له غزة من عمليات إبادة تقودها الوحشية الإسرائيلية فإن مبادرات كثيرة خلقتها الحرب تستهدف توثيق ما يجرى بغرض تمكين الرواية الفلسطينية المضادة للرواية، التى تعمل إسرائيل على تسييدها.
وبفضل تلك المبادرات تتزايد كل يوم فى العالم الأصوات الداعية إلى وقف الحرب، كما تنضم أسماء كبيرة للمظاهرات المؤيدة للحق الفلسطينى.
فى الأدب كما فى كل أشكال الفنون ينبغى دائمًا الالتفات إلى ألم الآخرين، والوقوف مع الضحية، وبفضل هذا الالتفات يمكن الاستماع إلى أصوات الضحايا، وفى دراسات ما بعد الاستعمار التى لعب المفكر الفلسطينى إدوار سعيد دورًا فى إبرازها يمكننا الوقوف طويلًا أمام الدور الذى لعبه الأدب المكتوب بالإنجليزية من قبل أبناء المستعمرات فى فضح خطاب المستعمر وإسقاط حججه عبر استعمال لغته، ويمكن للصورة أن تؤدى اليوم الدور الذى كانت اللغة تؤديه.
وشىء من هذا يحدث فى فلسطين الآن حيث تسعى بعض الأسماء الفلسطينية التى حققت نجاحًا كبيرًا فى العالم إلى التواجد فى غزة من جديد وتوثيق ما يجرى بغرض إتاحته أمام وسائل الإعلام فى العالم وعبر مواقع التواصل الاجتماعى أو على الأقل حفظ الذاكرة الفلسطينية.
وفى الكتاب المهم (الرد بالكتابة) الذى كتبه بيل أشكروفت وجاريث جريفيت وهيلين تيفن وترجمته شهرت العالم يمكننا العثور على عبارة مهمة ودالة تقول إن الاهتمام بالمكان، والإزاحة عن المكان يمثل ملمحًا رئيسيًا من ملامح آداب ما بعد الكونيالية، وهو ما يعنى شيوع الاهتمام بتطوير أو استعادة علاقة فعالة بين الذات والمكان لتحديد الهوية، وهذا بالضبط ما تستهدفه مبادرات عديدة أتابعها على مواقع التواصل الاجتماعى، ويقف خلف أبرزها المخرج السينمائى الفلسطينى البارز رشيد مشهراوى الذى درب بعض الشباب هناك على حمل الكاميرا، وتسجيل أفلام قصيرة تتضمن القصص التى تهملها الفضائيات، وقد أخبرتنى الصديقة ليالى بدر بخبرتها الطويلة فى مجال السينما أن هناك تفكيرًا جديًا لتنظيم فعاليات خاصة لعرض تلك الأفلام فى مناطق كثيرة حول العالم، كما تحمس عازف العود البارز نصير شمة لإعداد الموسيقى التصويرية لبعضها، وهى خطوة تستحق التحية.
وتعرفت خلال هذا الأسبوع على مبادرة أخرى للكاتبة الفلسطينية الأمريكية سوزان أبوالهوى التى تقابلت معها للمرة الأولى، وشرحت لى بالتفصيل الدور الذى تقوم به مع الشباب فى فلسطين.
قبل هذا اللقاء كنت أتصور أن اشتغالى بالصحافة لنحو 25 عامًا صنع لى حصانة كبيرة تحررنى من مأزق الانبهار بالمصدر، وهو مازق يمكن لأى صحفى شاب أن يسقط فيه، لولا أن تأثير سوزان أبوالهوى كان طاغيًا، ليس لأن ما نقلت له كان مؤلمًا، وإنما لأنها عبرت عنه بنبرة صادقة يصعب تفاديها، فقد جاءت من الولايات المتحدة، ومعها فريق للمساعدة فى توفير مواد الإغاثة وبعض شروط الحياة التى تقف تحت بند الحد الأدنى.
وبالرغم من صعوبة الظروف التى عاشتها فى غزة فإنها أصرت على تنظيم ورش لتعليم الكتابة الإبداعية فقد كان هدفها أن يتمكن الفلسطينيون مستقبلًا من كتابة ألمهم فى نصوص إبداعية ذات قيمة فنية، لأن التجربة وحدها لا تكفى والمهم كيفية التعبير عنها.
وحين سألتها عن الأدوار المتعددة التى تؤديها وهى الروائية والناشطة الحقيقية والطبيبة فى المعامل استعادت نموذج الشهيد غسان كنفانى الذى كان قاصًا عظيمًا وصحفيًا مبدعًا ومناضلًا فذا استهدفته إسرائيل فى جريمة بشعة لتوقف حضوره فصار أكثر حضورًا بعد أكثر من 50 عامًا على وفاته.
تقول أبوالهوى إن مصدر الخطر على القضية الفلسطينية يأتى من قدرة إسرائيل على إقناعنا بعجزنا وفرض هيمنتها فيما أسمته بـ«استعمار المخيلة»، وهو تعبير استعمله مالك بن نبى فى حديثه عن العقول التى تهيأ نفسها للاستعمار.
كما ترى أن هناك «انتكاسة للضمير الإنسانى»، فنحن نتراجع كبشر، بل نتخلف، كما أن العالم كله يشاهد ما يجرى فى غزة، ويتجاهل الأصوات التى تدعو إلى وقف الحرب وإغاثة الفلسطينيين، وهى المرة الأولى التى تبث فيها مشاهد الإبادة على الهواء، بينما يمكن فى ذات اللحظة رؤية الصهاينة على (تيك توك)، وهم يحتفلون فى تشفٍ لا يمكن نسيانه أبدًا.
لا تعرف الروائية الفلسطينية البارزة صاحبة رواية (بينما ينام العالم) كيف سيعود الناس فى غزة من تلك اللحظة التى قذفت بهم خارج شروط الحياة، لكنها لا تتوقف عن العمل ليبقى الصوت الفلسطينى فعالًا، فالفلسطينيون ليسوا هم الهنود الحمر فى القرن الحالى، لسبب بالغ البساطة، وهو أن فلسطين تملك أصواتًا فاعلة فى كل مكان بالعالم، ولن ترضى بالصمت أبدًا، على الأقل احترامًا لمئات الآلاف الذين راحوا، وهم يؤمنون بمقولة محمود درويش بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.