عودة إلى رابعة العدوية: من عزل مرسى؟
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 19 أغسطس 2015 - 10:25 ص
بتوقيت القاهرة
من يتحمل مسئولية الوصول إلى لحظة الصدام المروعة التى جرت قبل عامين فى «رابعة العدوية»؟
وهل كان من الممكن تجنب هذا الصدام أم أنه كان محتما؟
التاريخ لا يكتب على الهوى السياسى.
بقدر ما تكون الروايات متسقة مع الحقائق فإنها تستقر فى الضمير العام.
وهذه مهمة العدالة الانتقالية التى جرى التقاعس فى ملفاتها حتى بدت الوزارة التى تحمل اسمها كشواهد القبور.
رواية الجماعة لإطاحتها من السلطة تتجاهل أسباب الغضب التى أفضت إلى (٣٠) يونيو وتبرئ نفسها من كل مسئولية وتصف الأمر كله على أنه انقلاب ضد الشرعية.
الحقيقة أن الشرعية تقوضت تماما فى اللحظة التى أعلن فيها رجلها فى الاتحادية إعلانا دستوريا فى نوفمبر (٢٠١٢) انتهكت فيه أية قيمة ديمقراطية وأية صلة بثورة «يناير» التى كان على رأس أهدافها تأسيس نظام حكم يلحق مصر بعصرها.
لم يكن هو صاحب القرار لكنه دفع ثمنه وجرى إضعافه لإثبات سطوة الآخرين.
فى كل الأزمات توارى الرئيس «محمد مرسى» لصالح مرشد الجماعة «محمد بديع» ورجلها القوى «خيرت الشاطر».
لم يكن رئيسا لكل المصريين ولا قادرا على أخذ مسافة تقتضيها مسئوليته.
تحكمت فى تصرفاته شخصية «الرجل الاحتياطى»، فقد تقدمت الجماعة بأوراقه بعدما استبعدت اللجنة العليا للانتخابات مرشحها الأصلى «الشاطر».
الخطورة ليست فى استبدال رجل بآخر وإنما فى إحالة «مرشح احتياطى» إلى «رئيس احتياطى».
منذ اللحظة الأولى لصعوده الرئاسى وضعته الجماعة تحت الضغط الشديد حتى لا ينسى أنها صعدت به إلى حيث لا يخطر له على بال وأن مصيره معلق بما تقرره فى شأنه.
بدأت أولى أزماته فى اليوم التالى مباشرة لإعلانه رئيسا: أين يقسم اليمين الدستورية؟
وهو يغادر وزارة الدفاع بعد زيارة شكر تقليدية طلب من المشير «محمد حسين طنطاوى» أن يرسل إليه على وجه العجل من يمثله للبحث فى أمر عاجل لم يكشفه.
فى الساعة الخامسة من هذا المساء ضمته مائدة مستديرة فى قصر «الاتحادية» إلى ثلاثة قادة عسكريين هم: الفريق «عبدالعزيز سيف الدين» قائد الدفاع الجوى والشخصية الثالثة فى المجلس العسكرى واللواء «ممدوح شاهين» مساعد وزير الدفاع للشئون القانونية واللواء «عبدالفتاح السيسى» مدير المخابرات الحربية الذى قدر له أن يتحمل مسئولية إطاحة الجماعة من السلطة انحيازا لإرادة شعبية لا سبيل إلى إنكارها.
كان لدى الرئيس المنتخب طلبا واحدا صريحا ومباشرا: «أريد أن تبحثوا لى عن حل يعود به مجلس الشعب حتى يمكننى أداء اليمين الدستورية أمامه».
بدا الطلب مستحيلا تماما فالمحكمة الدستورية العليا قضت ببطلانه.
مما سمعه فى هذا الاجتماع: «إذا أردت أن تكون رئيسا محترما لدولة محترمة فعليك احترام الإعلان الدستورى الذى انتخبت على أساسه».
فيما يشبه الإلحاح على طلبه دعا الجنرالات الثلاثة لمراجعة المشير.
«لسنا فى حاجة لمراجعته فنحن هنا لنمثله».
الاجتماع المثير غلبته حالة توتر مكتومة وبقيت أكواب الشاى والينسون التى وضعت على مائدته دون أن يقترب منها أحد.
ورغم أنه اضطر فى النهاية لأداء القسم أمام المحكمة الدستورية العليا إلا أن القصة ألقت بظلالها الكثيفة على المسار السياسى كله.
فالقرار لم يكن فى «الاتحادية» حيث رئاسة الدولة وإنما فى «المقطم» حيث مكتب الإرشاد.
بمعنى آخر: أول من أطاح برئاسة «مرسى» الجماعة التى ينتسب إليها.
أضعفت مركزه وتعاملت مع منصبه باستخفاف وحرمته من أية قدرة على التصرف وفق صلاحياته الرئاسية.
وهو لم يكن قادرا ولا راغبا فى أى تصرف مستقل.
قبل إطاحته بأسبوع واحد كان البلد على أعصابه ينتظر ما قد يقوله فى قصر المؤتمرات بمدينة نصر أمام حشد من أنصاره يدعونه إلى الحسم مع خصومه السياسيين والتحريض على أية قيمة ديمقراطية صعدت بهم إلى السلطة.
تصورت الجماعة أن ما لديها من قوة فى التنظيم ووفرة فى الموارد المالية كاف للحسم والزج بأية معارضة مدنية فى السجون باليوم التالى لفشل (٣٠) يونيو وأعدت بالفعل قوائم الاعتقالات.
أفرط «مرسى» فى التهديد والوعيد والتحرش بقضاة وإعلاميين وسياسيين وشطب بأستيكة غليظة على أية فرصة لخفض الاحتقانات السياسية.
لم يكن رجل الجماعة القوى مستعدا لأية تسوية ممكنة وقامر بمستقبل الجماعة كلها.
وهكذا تراجع «مرسى» فى خطابه الأخير.
كانت هناك ثلاثة مطالب للمعارضة المدنية.. أولها، تغيير النائب العام المستشار «طلعت عبدالله» بآخر يعينه المجلس الأعلى للقضاء.. وثانيها، إقالة حكومة «هشام قنديل» واختيار شخصية توافقية لهذا المنصب.. وثالثها، إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
التاريخ لا يكتب بأثر رجعى ولا بالنوايا الحسنة غير أن أى درجة من الاستجابة للمطالب الثلاثة كانت سوف تضع الأزمة التى توشك أن تنفجر على مسار آخر.
فى تجربة السلطة توارت «الجماعة المظلومة» وبرزت الجماعة التى تستعرض عضلاتها وميليشياتها وترفع سقف التحالف مع جماعات تكفيرية إلى حدود منذرة باحتراب أهلى.
لم تخلص لأية وعود قطعتها على نفسها ولم تبق على أى تحالف مع أية قوى مدنية وثقت فيها.
بأسرع من أى توقع خسرت بصورة شبه كاملة الطبقة الوسطى المدينية وجماعات المثقفين والفئات الأكثر فقرا الذين طالعوا لأول مرة ما هو خاف فى حقيقتها.
بدت عاجزة تماما أن ترى كراهيتها فى الشارع مجسدة فى عشرات الملايين التى خرجت فى (٣٠) يونيو ولا أن تقر بشرعية الغضب عليها.
عندما تغالط الحقائق التى أمامك فالأثمان باهظة.
هذه القاعدة تنطبق على الجماعة بصورة مذهلة.
كان لديها اعتقاد راسخ أن الجيش لن يتدخل فى صراعات السلطة أيا كانت أحجام التظاهرات الغاضبة أو احتمالات الانجراف إلى احتراب أهلى استنادا إلى تعهدات قطعتها السفيرة الأمريكية «آن باترسون».
الأخطر من ذلك كله أنها راهنت فى «رابعة العدوية» على صدام دموى يفضى إلى تفكيك فى الجيش أو العودة إلى السلطة بتفاوض فوق أشلاء الضحايا.
هذه هى الخطيئة السياسية الأخطر فى القصة كلها.
هناك شهادات معلنة لقيادات فى الجماعة لا تخجل من كشف ما هو مستور من رهانات على الدم.
سقط ضحايا دون جريرة وارتكبت أخطاء أمنية فادحة أثناء فض «رابعة» حسب تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان.
وهذا يستدعى إجراء تحقيق موسع لا إيداع الملف فى الأدراج يعلى قيمة العدل وينصف أى ضحايا.
غير أن مسئولية الجماعة أفدح وأخطر بحق أنصارها وحق البلد كله الذى وضع على حافة الحرب الأهلية.
بدت الاعتداءات المسلحة التى رافقت فض اعتصامى «رابعة» و«النهضة» على المنشآت العامة وأقسام الشرطة والكنائس وسقوط أعداد كبيرة من ضباط وجنود الشرطة دليلا نهائيا على التورط فى العنف ينفى أية ادعاءات سلمية.
حتى لا ننسى فإن أغلبية كاسح من الرأى العام اتهمت السلطة الجديدة بالتراخى فى فض الاعتصامين بذات قدر طلبها فى (٣٠) يونيو بتدخل الجيش لإنقاذ البلد من مصير مأساوى.
المعنى فى ذلك كله أن الجماعة قبل غيرها عزلت رجلها فى «الاتحادية» قبل أن تدفع أنصارها إلى صدام مروع فى «رابعة».