لا سبيل إلى التخفيف من وطأة أزمة المياه على مصير بلد ارتبط وجوده بنهر النيل، وتأسست على ضفافه أقدم الحضارات وأكثرها إلهامًا وتأثيرًا فى تاريخ الإنسانية.
المسار الفنى فى مفاوضات سد النهضة الإثيوبى وصل إلى طريق مسدود والفشل بات مؤكدًا.
لم تكن هناك مفاجأة فى الوصول إلى هذه النقطة، فمن الملامح الرئيسية لمسار التفاوض استهلاك الوقت حتى نجد أنفسنا أمام سد قد بنى وخزان امتلأ بالمياه دون أدنى توافق على أى إجراءات وقواعد تمنع الضرر عن دولتى المصب.
كما لم تكن هناك مفاجأة فى تضاد المواقف من التقرير الاستهلالى، الذى قدمه المكتب الاستشارى الفرنسى بتكليف من الدول الثلاث، حول الآثار المترتبة على بناء السد ـ مصر وافقت عليه والسودان انضم إلى إثيوبيا على خلفية الاحتقانات السياسية المكتومة والمعلنة بين البلدين.
مع الإعلان الرسمى عن فشل المسار الفنى طرح على الرأى العام سؤال حرج: ماذا بعد ملء خزان سد النهضة الإثيوبى؟
تبدت حالة انكشاف خطرة، فلم يكن الرأى العام على شىء من المعرفة بحقائق الموقف.
فجأة قيل له إنه خطير وأن الرهانات التى جربت فشلت تماما دون أن يحاط علما بأى خطوات مقبلة تحفظ حقه فى المياه والحياة.
رغم أن دراسات وكتابات عديدة لخبراء ومختصين لفتت مبكرا إلى مواطن الخلل فى إدارة الملف ومدى الأخطار التى تحيق بوجود البلد نفسه، فإن الإعلام تجاهل ـ تقريبا ـ أى اقتراب جدى مما يجرى خلف كواليس المفاوضات المتعثرة ومال الأداء الرسمى إلى ما يشبه التعتيم المحكم.
أهم شروط إدارة مثل هذه الملفات الحساسة بنجاح أن يكون الرأى العام حاضرا وملما بالحقائق الأساسية ومطمئنا فى الوقت نفسه إلى كفاءة الأداء.
تلك ضرورة تماسك وطنى أمام سيناريوهات حرجة تطل بأخطارها على المستقبل المنظور، فأزمة المياه وجودية تتصل بالحياة أو الموت.
الأمن المائى يرتبط ــ بالضرورة ــ بالأمن الاجتماعى وقدرة البلد على إنتاج الغذاء وتوفيره بأسعار مناسبة لمواطنيه، كما يتداخل مع الأمن العام وخطر الإرهاب على سلامة المجتمع والدولة.
أول تهديد وجودى خفض حصة مصر من مياه النيل، التى تبلغ (٥٥٫٥) مليار متر مكعب سنويا وضرب الأمن المائى فى صميمه.
بافتراض أن سد النهضة لم ينشء من الأساس، فإن تلك الحصة لا تكفى الاحتياجات المتزايدة للمصريين مع زيادة أعداد السكان ــ (١٠٤) ملايين نسمة ــ والتطلع إلى استزراع أراضٍ جديدة تفى باحتياجات السكان من الغذاء.
المعنى ــ فى أى استراتيجية ممكنة ــ السعى للحفاظ على الحصة المصرية التاريخية من تدفقات نهر النيل والعمل بالوقت نفسه على توفير موارد إضافية كالآبار الجوفية وتحلية مياه البحر للشرب وتدوير مياه الصرف الزراعى والصحى، فضلا عن سياسات جديدة وصارمة لتعظيم استخدام كل قطرة مياه.
فيما يتعلق باستخدامات المياه هذه الاستراتيجية تتطلب إعادة نظر جذرية فى السياسات والمشروعات والأولويات، بالإضافة إلى إعادة تأهيل جهاز الدولة كله وأخذ الأمور بجدية كاملة.
ذلك ضرورى بغض النظر عن سد النهضة، وضرورته تتضاعف عشرات المرات مع أخطاره المحدقة، غير أنه لا يمثل حلا أو بديلا عن مياه نهر النيل وحصة مصر المشروعة فيه.
وفق اتفاق المبادئ، الذى وقعه فى مارس (٢٠١٥) بالخرطوم قادة الدول الثلاث، فإن «الغرض من سد النهضة هو توليد الطاقة للمساهمة فى التنمية الاقتصادية والترويج للتعاون عبر الحدود».
الهدف ــ بذاته ــ حق إثيوبى كامل بحثا عن تحسين أحوال مواطنيها بطرق أبواب التنمية ووسائلها يقابله حق مصرى ثابت فى المياه دون انتقاص من حصتها التاريخية.
غير أن ما هو واضح من حقوق لا تسنده سياسات وتصرفات تؤكد حسن النية و«عدم التسبب فى ضرر ذى شأن» ــ وفق ما جاء باتفاق المبادئ.
المثير ــ هنا ــ أن اتفاق المبادئ استقيت مصطلحاته وروحه العامة بالكامل ــ تقريبا ــ من اتفاقية «عنتيبى» لدول حوض نهر النيل، التى اعترضت عليها مصر بمشاركة سودانية.
الاعتراض انصب على مادتها الرابعة عشرة، التى أشارت بصياغة عامة: «ألا يكون هناك تأثير سلبى على الأمن المائى لأى دولة من دول الحوض».
كان الاقتراح المصرى البديل: «ألا يكون لها تأثير سلبى على الأمن المائى والاستخدامات الحالية وحقوق أى دولة من دول الحوض».
الفارق بين الصياغتين جرى التخفف منه فى اتفاق المبادئ.
هنا يطرح السؤال نفسه: لماذا لا يجرى ــ الآن ــ التوقيع على اتفاقية «عنتيبى» حتى يمكن إشراك دول حوض النيل والاتحاد الإفريقى بصورة مباشرة فى الأزمة، والاحتكام إلى آليات فض المنازعات المنصوص عليها فى تلك الاتفاقية؟
كما أن التوقيع لا يمنع ــ وفق نصها ــ من الانسحاب منها.
باليقين «عنتيبى» ليست مثالية ومن بين دواعيها استهداف مصر، لكنها أفضل من إعلان المبادئ.
من بين ما نصت عليه للاستخدام المنصف والمعقول للمياه الآخذ فى الاعتبار الحاجات الاجتماعية والاقتصادية لدول حوض نهر النيل والسكان الذين يعتمدون على موارده وعوامل أخرى تزكى ــ نظريا ــ زيادة حصة مصر.
وثانى تهديد وجودى شبح العجز عن توفير الغذاء.
رغم التأكيد فى إعلان المبادئ على اقتصار استخدام سد النهضة على توليد الكهرباء، إلا أن حجمه وقدرته على تخزين المياه ــ (٧٤) مليار متر مكعب ــ يومئ بقوة إلى احتمال استخدام الفوائض المائية فى الزراعة.
وفق الدكتور «محمود أبو زيد» وزير الرى الأسبق بدراسة غير منشورة، فإن من آثار سد النهضة انخفاض الإنتاج الزراعى على نحو يضرب الأمن الاجتماعى بقسوة.
فإذا ما نقصت مياه الزراعة بخمسة مليارات متر مكعب يصل إجمالى الخسائر إلى أكثر من (٧٥) مليار جنيه مصرى.
وإذا ما نقصت بعشرة مليارات متر مكعب فإن تلك الخسائر تتجاوز (١٥١) مليارا، فضلا عن النقص فى توليد الكهرباء وتهميش دور السد العالى والإضرار بالثروة السمكية وتصحر الأراضى الزراعية.
هنا يتداخل الأمنان المائى والاجتماعى بما يذكر بـ«الشدة المستنصرية»، التى احتفظت بمآسيها وفواجعها ومجاعاتها ذاكرة التاريخ.
فى مثل هذه الأوضاع يدخل الإرهاب على الخط، وهو تهديد وجودى ثالث، حيث يستهدف أمن المجتمع وضرب ثقته فى نفسه.
تلك أوضاع خطرة لأزمات وجودية قد تتفاقم إذا لم يكن المجتمع شريكا كاملا فى تحمل مسئولية الموقف، وإذا لم تصحح السياسات التى أفضت إلى الفشل فى إدارة الملف الحساس.
التصعيد بلا أفق سياسى مقامرة خاسرة سلفا، كما أن الكلام العشوائى عن عمل عسكرى يسحب أى تعاطف إفريقى مع مصر ـ حتى لو لم يكن كافيا، فلكل حدث حديث.
ما تحتاجه مصر ـ الآن ـ أن تصارح نفسها بالأسباب، التى أدت إلى ما وصلت إليه، وكيف خسرت هيبتها فى القارة، وأن تستدعى أفضل ما فيها من كفاءات بمجالات السدود والرى والزراعة والقانون الدولى والأمن القومى للتوصل إلى استراتيجية كفؤة تواجه السيناريوهات الحرجة دون استبعاد خيار واحد.