انهيار الطبقة السياسية: باشوات وهزليون
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 21 يناير 2015 - 8:20 ص
بتوقيت القاهرة
لا توجد طبقة سياسية فى مصر قادرة على تحمل مسئولية التحول الديمقراطى.
هذه معضلة كبرى لا سبيل إلى إغفالها وإلا فإننا سوف نتقدم من جديد إلى الحائط المسدود نفسه.
من حيث المبدأ العام فلا ديمقراطية بلا ديمقراطيين ولا تحول بلا استعداد لدفع تكاليفه.
وإذا جاز السؤال عن أسباب اختطاف «ثورة يناير» مرة أو أن يطل الماضى من جديد مرة أخرى فإن إحدى الإجابات الرئيسية افتقاد أية طبقة سياسية توفر قاعدة البناء الضرورية.
فى «يناير» جرت التفاعلات كلها خارج أى سياق حزبى والخروج عن السياق معناه بالضبط حكما بالنهاية على اللعبة كلها.
لم تكن هناك أية أدوار يعتد بها لأى حزب سياسى، ولا كانت هناك جماعة واحدة على قدر من التماسك التنظيمى باستثناء «الإخوان المسلمين».
تصدرت المشهد الجديد جماعات شابة واحتجاجية غضبها يسبق برامجها وعضويتها عابرة لما هو حزبى أو أيديولوجى، وأية مراجعة لانتماءات قيادات «كفاية» التى أخذت زمام المبادرة فى تحدى «التوريث» و«التمديد»، أو «الجمعية الوطنية للتغيير» التى احتوت الغضب نفسه فى مرحلة تالية، أو «ائتلاف شباب الثورة» الذى أعلن عن حضوره فى ميدان التحرير تثبت دون شك تنوعها السياسى بحثا عن شىء من القوة فى مواجهة تغول النظام.
كان الانضمام فرديا لا جماعيا، شخصيا لا أيديولوجيا، والأهداف العامة سادت الموقف كله.
طبيعة النشأة وفرت حيوية تفتقدها الإطارات السياسية المتهالكة وساعدت على نمو موجات الغضب وألهمت التغيير غير أنها عجزت عن أن توفر أية قيادة أو تصوغ أى برنامج.
المعنى أن قوة الدفع وقفت فى منتصف الطريق، لا حطمت كل قديم مستهلك ولا أسست لأى جديد ثابت يليق بما طلبته من أهداف وبذلته من تضحيات.
جماعات الغضب حملت التغيير إلى الميادين لكنها عجزت عن أن توفر طبقة سياسية جديدة تزيح ركام الماضى أو تحفظ الثورة من الانقضاض عليها.
باليقين فهناك من يؤمن بالديمقراطية ومستعد أن يدفع أثمان التحول إليها غير أن القضية أعقد من أن يلخصها نبل أصحابها فما لم تكن هناك بنى صلبة فإن كل تقدم قابل للانتكاس، المسألة تتعلق بالقواعد قبل أى شىء آخر، والنصوص الدستورية لا تكفى وحدها لتأسيس نظام ديمقراطى.
لابد أن تكون هناك طبقة سياسية حديثة أكثر التزاما بما ضحى من أجله المصريون تضمن إنفاذ الدستور وتعمل وفق الأصول الديمقراطية وإلا فإن الماضى قد يعيد نفسه بصورة تهدر أية تضحية.
وهذه قضية تحتاج إلى قواعد تفسح المجال العام أمام التفاعلات الطبيعية بلا مصادرة عليها.
الطبقات السياسية لا تولد فجأة ولا بقرار من أحد، وبقدر ما تكون القواعد واضحة ومقنعة فإن المجتمعات تجدد دماءها وتراكم خبراتها.
بتلخيص ما فإن الخروج عن السياق طبيعة ثورة وتأسيس القواعد قضية مستقبل.
أمام ما يشبه الانهيار فى الطبقة السياسية الحالية، باستثناءات تثبت القاعدة ولا تنفيها، فإن سؤال المستقبل يلوح فى ظلال الانتخابات النيابية المقبلة.
فى اجتماع الرئيس مع قادة الأحزاب كان هناك من هو مستعد أن يحرض على الديمقراطية والتنكيل بالشباب المسيس، ويزايد على الأجهزة الأمنية فى رفض تعديل قانون التظاهر ويطرح قضايا يتداخل فيها الخاص بالعام بصورة تدعو للخجل كما استمعت من قادة حزبيين شاركوا بالحوار.
الحوار كقيمة ضرورى وإيجابى، غير أن هناك فرقا بين ما هو جاد وما هو هزلى، بين ما هو سياسى وما هو أمنى، وبعض الذين دعوا إلى «الاتحادية» لا يمثلون شيئا له قيمة أو وزن واعتبار، ووجودهم نفسه عبء على المستقبل يصعب تحمله.
العبارات بنصوصها كأنها من المحفوظات فى نفاق الرئيس، أى رئيس.. كأن مصر لم تخطو خطوة واحدة للأمام، فهناك شىء اسمه المصلحة العامة التى تستوجب المصارحة بجدية والحوار بندية وأن يكون الاحترام المتبادل أساسه.
بدا المشهد المتهافت كأنه إعادة إنتاج بصورة أكثر هزلية لمشاهد أخرى فى انهيار أى معنى للاحترام أمام السلطة.
فى الأيام الأولى لثورة «يوليو» بدا رجلها القوى «جمال عبدالناصر» مصدوما وهو يرى أمامه وزراء وباشوات يتسابقون على «خدمة» أعضاء مجلس قيادة الثورة أثناء غداء على الباخرة النيلية «محاسن» دعا إليه رئيس الحكومة «على باشا ماهر».
تساءل يومها: «هل هؤلاء وزراء أم سفرجية؟».
القصة على ما يروها الأستاذ «محمد حسنين هيكل» تكشف مدى الانهيار الأخلاقى والسياسى لما تبقى من نخبة النظام الملكى الذى انهار بضربة واحدة من تنظيم يضم (٩٠) ضابطا شابا.
شىء من هذا الانهيار الأخلاقى والسياسى تبدى أمام الرئيس «عبدالفتاح السيسى» من بقايا نخبة نظام «حسنى مبارك» الذى سقط رأسه دون أن يتقوض بنيانه.
لا يمكن التقدم للأمام أو التطلع لأى مستقبل بمثل هذا المستوى من الأداء الذى يناسب «خدم السرايات» لا «رجال السياسة».
هذه طبقة سياسية انهارت أغلب أركانها دون أن تكون هناك طبقة سياسية جديدة تضخ دماء الحياة فى الشرايين المتيبسة.
القديم يتشبث بمواقعه والجديد لا يعلن عن نفسه.
ما هو قديم يتشبث بالبقاء على المسارح بلا أى نص أو دور أو جمهور وبعضها الاخر كرتونى بالمعنى الحرفى، لكنها تدعا لمثل هذه الحوارات دون أن تدرك الرئاسات أن فى حضورها إهانة لأى معنى سياسى فى هذا البلد الذى قام بثورتين فى أقل من ثلاث سنوات حتى يغير قواعد اللعبة السياسية دون أن ينال طلبه.
وما هو جديد يكتفى بالصراخ فى الفضاء الإلكترونى دون أن يحاول تنظيم نفسه وأن يؤسس لرؤيته وينقل أحلامه إلى أرض الواقع وسط شعبه وناسه.
أى تعال على بسطاء المصريين هو حكم بالإعدام السياسى، وهذا هو النخاع الشوكى لأية طبقة سياسية يحق لها أن تتطلع إلى المستقبل.
المستقبل بحقائق الحياة هو أمانة الأجيال الجديدة التى لا يصح على أى نحو ولا فى أى خطاب النظر إلى الجفوة معها على أنها احتواء مؤقت أو امتصاص احتقان.
بالنسبة لبلد شاب فى سكانه وعجوز فى دولته فإن الخصومة إذا ما استفحلت بين الدولة وشبابها فلا دولة سوف تستقر ولا المستقبل يعد بشىء.
بيقين فإن الوعد الرئاسى بالإفراج عن موقوفين ومحكومين من الشباب قبل الاحتفال بالذكرى الرابعة لثورة «يناير» خطوة رمزية لها قيمتها فى حلحلة الأزمة لكنها تتطلب خطوات أخرى ترفع أية مظالم وتفتح المجال العام أمام القوى الشابة لتعبر عن نفسها بحرية، فالحرية من أثمن ما دعت إليه «يناير»، ومن أولى اشتراطات بناء طبقة سياسية تزيح ما تهدم وانهار.