المهرولون إلى إسرائيل: انتحار استراتيجى
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الخميس 21 فبراير 2019 - 12:00 ص
بتوقيت القاهرة
لم يكن «جواهر لال نهرو»، رئيس وزراء الهند وبطل استقلالها وأهم شخصية سياسية فى تاريخها الحديث، مقتنعا بمقاطعة إسرائيل وعزلها عن حركة العالم الثالث.
بمبادرة مفاجئة أرسل دعوة لإسرائيل للمشاركة فى مؤتمر «باندونج» عام (١٩٥٥).
بدا الأمر محرجا أمام اعتراض الرئيس المصرى «جمال عبدالناصر».
تساءل «نهرو»: «أليست إسرائيل دولة آسيوية؟».
بدا معتقدا أن مصر باعتراضها تتمسك بشكليات لا تقتضيها طبيعة الحقائق، ثم إنها تخلط بين مشكلة داخلية وبين قضية عالمية يمثلها مؤتمر، يستهدف مواجهة الاستعمار والقضاء عليه، وفتح الطريق أمام حركة التحرر الوطنى.
وفق رواية «محمد حسنين هيكل»، الذى حاوره فى القضية الشائكة كصحفى مقرب من قائد «يوليو»: «لنقل إنها تحتل رقعة أرض فى آسيا، لكنها ليست آسيوية بالقطع».
«إسرائيل ليست غير رأس جسر للاستعمار على الشاطئ الشرقى للبحر الأبيض ومشاركتها ضد الطبيعة، طبيعة باندونج وطبيعة إسرائيل».
أثناء المباحثات الرسمية بالقاهرة حسم «عبدالناصر» كل سجال ــ إما مصر والعالم العربى وإما إسرائيل.
بلا اقتناع حقيقى استجاب «نهرو» وسحب دعوته خشية تفكك حركة عدم الانحياز قبل أن تولد فى «باندونج».
بحكم السياسات العملية قبل الصداقات الشخصية لم يكن ممكنا تجاهل الدور المحورى المصرى فى قيادة تلك الحركة ولا مغبة خروج العالم العربى منها.
لم يكن «عبدالناصر» صاحب فكرة «عدم الانحياز»، التى تعود فى الأصل إلى الزعيم الهندى، غير أنه أعطاها «الديناميكية» التى نجحت بفضل صورته التحررية فى ربط نضال شعوب العالم الثالث.
بقوة الحقائق استجاب «نهرو» لاعتراض «عبدالناصر».
فيما بعد أبدت الهند ارتباطا قويا بقضية العرب المركزية فى ظروف ما بعد هزيمة (١٩٦٧)، وقفت مع مصر فى محنتها، كأن المصير واحد والهزيمة مشتركة، ووصلت العلاقات بين البلدين إلى ما يشبه التوءمة الاستراتيجية.
القصة تكاد تكون مجهولة، كأن الشرق الآسيوى كان يوافقنا فى النظر إلى الموقف من إسرائيل دون أن يكون لنا دور ومعنا أوراق توضع على المائدة.
ذات مرة سأل «نهرو» «عبدالناصر»: «لماذا تصف مصر بأنها دولة نامية؟.. مصر دولة كبرى يا سيادة الرئيس».. فأجابه: «دولة كبرى بعالمها العربى».
لخصت تلك الإجابة رؤيته لمصر ومكانتها فى عالمها، فمصر داخل حدودها بلد منكشف فى أمنه القومى، ومصر منفتحة على عالمها العربى بلد قوى ومُهاب.
هذا المعنى هو صلب ما أهدرناه فى إدارة العلاقات الدولية.
عندما تغيب حقائق التاريخ لا ندرك ما الذى جرى بالضبط، تهدر المعانى فى السياسة وتبهت الدروس فى الذاكرة.
الحقيقة التى يجب ألا ننساها أن أحدا لا يدافع بالنيابة عن قضايا الآخرين، إذا لم يدافعوا هم عنها ويعرضوها بكل وضوح واستقامة.
عندما تتنكر لقضاياك فلن يحترمها أحد آخر.
هذا ما حدث فى العلاقات المصرية ــ الهندية فيما آلت إليه بعد تقويض إرث التاريخ وأدواره التى كانت.
لم يكن ممكنا أن تطلب من الأصدقاء السابقين الالتزام بأى مصالح أو حقوق عربية إذا كنت قد تخليت عنها، وأخذت تسفه بنفسك من عدالتها بعد توقيع اتفاقيتى «كامب ديفيد» عام (١٩٧٨).
فى أجواء التخلى جرى اندفاع هندى إلى مد الجسور مع إسرائيل، وارتفعت بنسب عالية مستويات التعاون الاقتصادى والتقنى والعسكرى، ولم تكن الهند وحدها.
صداقات الدول تنشأ على قواعد المصالح الاستراتيجية، لا هى رحلات خلوية فى أمسيات صيف، ولا مصافحات عابرة فى عرض طريق.
المصالح الاستراتيجية تفوق كلمتها أى كلمة أخرى ــ كما هى العادة دائما.
تلك القاعدة سرت على طبيعة العلاقات مع الصين ودول أخرى.
نحن نتحدث عن صين ناهضة وقوية تتطلع فى مدى سنوات إلى تصدر التصنيف الدولى كأقوى اقتصاد فى العالم، لا بلد محاصرا يعانى عزلة دبلوماسية، وصداماته الأيديولوجية مع الاتحاد السوفيتى تنهك حركته.
ونحن نتحدث عن هند جديدة تنازع بقوة التنين الصينى على معدلات التفوق والقوة، لا بلد يعانى بقسوة من الفقر والحرمان وتبعات الاستعمار البريطانى الطويل.
من مقتضيات أى تقدم ممكن استطراد التراكم فى الخبرات والتجارب.
هذا ما لم يحدث فى مصر.
أهدرت الموارد التاريخية فى علاقاتها الخارجية، كما أهدرت مواردها الاقتصادية.
عند إعلان الرئيس «أنور السادات» أن «٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة» بدت مصر أمام انحدار استراتيجى.
عكس ذلك الإعلان نوع الاستراتيجيات والسياسات المصرية الجديدة، كأنه دعوة مفتوحة للأصدقاء السابقين فى الشرق الآسيوى والعالم الثالث بآسره إلى تنحية مصر من على أولويات تحالفاتها الدولية، والانفتاح على إسرائيل بصورة لم تكن متصورة.
نفس الإعلان بمنطقه وتداعياته أفضى إلى ابتعاد إفريقى عن الدولة التى لعبت أكبر الأدوار فى تحريرها والانفتاح على إسرائيل بدرجة تجاوزت ما كان يطلق عليه الاختراق إلى تعاون عسكرى واقتصادى واستخباراتى فاق كل توقع.
عندما لا تنظر لبلدك باعتبار فلن يضعها أحد فى أى اعتبار.
هذا هو درس التاريخ الأكبر الذى يهدر الآن فى العالم العربى على نحو ينذر بنكبات جديدة على الطريق.
بتقوض الدور المصرى بدأ التحلل فى الموقف العربى يأخذ مداه، مرحلة بعد أخرى، حتى وصلنا إلى الهرولة المعلنة وشبه المعلنة لدول وحكومات عديدة إلى أعتاب إسرائيل.
كل شىء مجانى، فليست هناك خطة سلام تستند على مرجعيات دولية، والفلسطينيون يناهضون ما تسمى بـ«صفقة القرن» بحسبانها تصفية نهائية لما تبقى من حقوق وأراض.
ولا هناك منطق يسوغ الهرولة إلى إسرائيل، على النحو المخجل الذى يجرى الآن، أو يبرر الحديث عن «ناتو عربى» يضم إسرائيل إليه دون سلام، أو حتى ادعاء سلام!
هكذا وصل الانهيار إلى قاع سحيق، فلا التزام بأى قضية، ولا احترام للمبادرة العربية التى تقضى بالتطبيع الشامل مقابل الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة.
كأننا نعطى إسرائيل بلا استحقاق كل أسباب القوة، التى تمكنها من التنكيل بما تبقى من حقوق فلسطينية والتغول على العالم العربى كله.
بأى قراءة موضوعية فما يحدث الآن انتحار استراتيجى كامل.
يقال إن العالم تغير والإقليم تغير وعدو الأمس ليس هو عدو اليوم، كأن القضايا الكبرى وثوابتها مما يجوز الاستهتار بها على هذا النحو الفادح.
ويقال إن هناك عدوا مشتركا يجمع العرب وإسرائيل هو «العدو الإيرانى» تسويغا للتحالف مع الدولة العبرية على حساب الحقائق الأساسية فى الإقليم.
وقد كان الاجتماع المغلق، الذى ضم رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» إلى عدد من وزراء الخارجية العرب، بصوره وما تسرب عنه مخجلا لأى معنى حاربنا من أجله ودفعنا ثمنه دما ذات يوم بعيد.