واشنطن على عكاز «الاحتواء» بدلا من صُنع السياسات
طارق فريد زيدان
آخر تحديث:
الثلاثاء 21 فبراير 2023 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
قبل ثلاثين عاما يوم كانت واشنطن تصنّع السياسات وتصنّع أنظمة إقليمية حول العالم، صاغت إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الأب إحدى أهم السياسات فى تاريخ العلاقات الدولية، وهى سياسة «الاحتواء المزدوج» لصاحبها ريتشارد هاس، مدير السياسات ورئيس مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب «عالم فى حالة من الفوضى: السياسة الخارجية الأمريكية وأزمة النظام القديم».
كانت سياسة «الاحتواء المزدوج» عبارة عن مزيج من العقوبات الاقتصادية والرقابة العسكرية على دولتى إيران والعراق. جاء ذلك على مسافة قريبة من سقوط الاتحاد السوفيتى وانتهاء حرب تحرير الكويت. الحدث الأول أذّن بولادة نظام دولى جديد برئاسة أمريكا. الثانى أعلن بداية النظام الشرق أوسطى الجديد المتماهى مع النظام الدولى.
عندما وصل الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، وكعادة الرؤساء الجدد، تتبدى أمامه الصورة الحقيقية للعالم. كان من الطبيعى أن يستند هذا الرجل المنتمى إلى القرن الماضى إلى الخبرة فى تحليله تاريخ الحرب الباردة. ومن المنطقى أن يلجأ فى نظرته إلى الصراعات الدولية المستجدة من منظور سياسات القوة وتوازناتها. كل ذلك طبيعى. لكن ألم يهمس أحدهم فى أذنه أن سياسة «الاحتواء المزدوج» قد فشلت؟
على طريقة الرئيس الفرنسى شارل ديجول تعالوا نُلْقِ نظرة على خريطة الكوكب. هو من قال يوما إنه إذا أردنا التكلم فى السياسة علينا النظر إلى الخريطة. انظروا إلى قارة آسيا التى تغطى العقوبات الاقتصادية الأمريكية ٦٥٪ من مجموع مساحتها، وهى دول روسيا والصين وإيران وسوريا ولبنان والعراق وكوريا الشمالية (حوالى المليارى نسمة). وأكثر من ٧٥٪ إذا ما أضيفت إليها عقوبات على مؤسسات منتشرة. ناهينا عن القلق الذى يسكن الكتلة السكانية الأكبر عالميا فى آسيا تجاه المستقبل. نهرٌ من القلق الإنسانى يتصل بالقيادة العسكرية المركزية حسب خريطة البنتاجون: منطقة الشرق الأوسط. منطقة تضع دول العراق وسوريا ولبنان تحت مجهر الرقابة الأمريكية. قانونا قيصر وماغنتيسكى وغيرهما.
●●●
لم يخضع كوكب الأرض يوما تحت مثل هذه المظلة من العقوبات الأمريكية فى السابق. يعزو البعض اتساع رقعة العقوبات الأمريكية إلى المغامرة العسكرية الفاشلة للعم سام فى أفغانستان والعراق التى جلبت الفوضى للنظام العالمى. كانت النتيجة قرار واشنطن بالانسحاب من البر الآسيوى إلى البحر واستبدال سلاح المدفع بسياسة الاحتواء. المبدأ ذاته. فالمدفع والاحتواء كلاهما يستند إلى منطق القوة وتوازناتها فى صياغة السياسات.
أضافت الحرب الروسية الأوكرانية زخما قويا يصب فى تعزيز منطق القوة، وبيّنت أن العضلات السياسية للمجتمع الدولى ضعيفة أمام خيار الحرب. فتم تعميم سياسة الاحتواء الأمريكى. يمكن تلمس آثار هذا الاحتواء الأمريكى المتعدد الأطراف على دولة مصر. نقطة التقاء قارة آسيا مع قارة أفريقيا بوجود كتلة سكانية تتخطى المائة مليون. معها تسعى دولة مصر جاهدة صباح كل يوم لتأمين أكثر من أربعمائة مليون رغيف من الخبز لسكانها فى ظل تعطل سلاسل إمداد القمح جراء الحرب الروسية الأوكرانية. هذا الجهد فى تأمين الدولة للقمة عيش المواطنة والمواطن المصرى المدعومة حكوميا دونها تحديات اقتصادية معقدة. منها أن السلعة المدعومة من الدولة المصرية تئن فى ظل تذبذب أسعار القمح عالميا، وبالتالى تُعرّض الميزان التجارى للخسارة.. ولكن الأهم أن الرغيف يصبح فى صلب الأمن القومى لهكذا دولة مهمة.
ليست كل مشاكل العالم هى بسبب الاحتواء الأمريكى المتعدد الأطراف. لكن السؤال هو لماذا تُعمّم واشنطن هذه السياسة حول العالم؟ والأهم هو هل لهذه السياسة من استثناءات؟
●●●
مثل هذا السؤال قد نجد الإجابة عنه فى متابعة أحداث الزلزال الكبير الذى ضرب دولتى تركيا وسوريا فى السادس من فبراير الجارى. هول الكارثة وتصاعد عدد الوفيات وتكلفة الأضرار المادية الكبيرة سيُحتّم على واشنطن مراجعة سياساتها. لعل تجميد تنفيذ «قانون قيصر» لمدة معلومة (180 يوما) يُمكن البناء عليه فى المستقبل. ثم من يجزم أن انتهاء هذا التجميد يعنى وقف دخول المساعدات؟ ألم تستفد حكومة العراق طيلة الحصار الاقتصادى المفروض عليها فى تسعينيات القرن الماضى؟ ثم ما الذى يوقف شبكة الفساد المستفيدة من سياسة الاحتواء وتعليقها لأغراض إنسانية؟ أتذكرون برنامج النفط مقابل الغذاء فى العراق وقضايا الفساد التى لاحقت أقرباء مسئولين فى بريطانيا وبينهم ابن رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر؟
صحيح أنه لا يمكن حل قضية من دون التأثير فى أخرى. وكأنما أصبحت كل القضايا متشابكة. مثلا الاتفاق النووى الإيرانى الأمريكى وضع فى الثلاجة إلى حين تبيان نتائج الحرب الأوكرانية ــ الروسية. هذه الحرب التى حوّلت القارة الأوروبية من لاعب إلى ملعب للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. وما يزال الوجدان الأوروبى متعلقا بسردية إنقاذ الولايات المتحدة الأمريكية القارة فى يوم إنزال النورماندى الشهير. ناهينا عن الصراع المتنامى فى شرق آسيا. كل ذلك والأزمات تتوسع وتتداخل مع الانتشار السريع لخذلان السياسة الدولية من إيجاد الحلول المناسبة.
الدول والأمم والمصالح لا تنام لتستيقظ فى اليوم التالى، على حد وصف الكاتب العربى محمد حسنين هيكل. هذه الحركة مستمرة بزخمها لا بذاتها. هذا ليس تمنيا بل مهمة تقع فى صلب إرادة صُنّاع السياسة وليس أولئك الذين يكتسحون عالم السوشيال ميديا بفقرات إرشادية.
على أرض هذا الكوكب المريض لا يمكن الركون إلى سياسة الاحتواء فقط. عالم اليوم يتطلب سياسة أعمق من الازدواجية التى تطرحها إدارة الرئيس بايدن. إدارة تريد إنتاج غاز شرق البحر المتوسط لإطالة الحصار على روسيا وفك ارتباطها الطاقوى مع أوروبا. تريد أن تستدرج الصين إلى الحرب فى تايوان لإدخالها فى معركة استنزاف اقتصادى. ثم تبحث عن شريك عربى لحصار عربى آخر.
أين صُناع السياسة الأمريكية؟ أين جيفرسون وأدمز وكيسنجر وسكوكروفت؟ وما هى درجة تأثيرهم فى صناعة القرار؟ أين هو جيمس بيكر الذى جمع العالم العربى وإسرائيل تحت مبادرة للسلام؟ ثم لماذا ترتاح واشنطن إلى سياسة الاحتواء بدلا من الانخراط فى بناء نظام دولى جديد يليق بقوة عظمى؟
يبدو أن واشنطن تنظر إلى أحوال هذا الكوكب الحزين بعين قرن مضى وعقل صبى أرعن ليس جاهزا لدخول القرن الجديد. هذه الازدواجية تُعرّض النفوذ الأمريكى إلى التآكل حول العالم.
يبدو كوكب الأرض اليوم متكئا على عكاز طبى بعد أن خذلته عضلات السياسة الوحيدة لواشنطن. كل مؤشرات هذا الإنسان الحيوية مريضة: الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية والأخلاقية. حتى الرأى العام العالمى (إن وجد) بات مريضا. يكفى متابعة الصحافة والإعلام والسوشيال ميديا لنجد خطابات غارقة بالعشوائية والتفاهة. كوكب الأرض كأنه يعيش اليوم فقط بفضل أجهزة التنفس الاصطناعية والأطباء يعالجون أعراض الكوكب بالقطعة لا بالجملة. ليس من المبالغة فى شىء لو قلنا إن واشنطن بصفتها كبير الأطباء المقيمين أصبحت تُحبّذ سياسة الاحتواء وتركن إليها بدلا من إبداع السياسات التى تتفق مع العصر الجديد والعصر الآتى.