تحقيق سياسى فى واقعة اغتيال!
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 21 أغسطس 2022 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
لم يخطر ببال السفير المصرى «إيهاب الشريف»، وهو يتلقى التعليمات بالتوجه إلى بغداد، أنه على موعد مع الجحيم.
كان رجلا به لمسة فنان يعشق التصوير الفوتوغرافى، لكنه لم يتوقع أن تكون صورته الأخيرة ملتقطة بكاميرا فيديو: وجه مغمى بعصابة قماش لا تخفى فزع موت وترقب نهاية بطلقة رصاص على رأس، أو ضربة سكين على رقبة.
كانت بغداد «الرحلة الأخيرة» فى حياة سفير يهوى أدب الرحلات والكتابة عن الأماكن التى يزورها بحكم عمله الدبلوماسى، لعله تصور – للحظة – أنه فى رحلة اعتيادية لبلد أراد أن يكتشف بنفسه معالمه، فخرج لشراء صحف بدون حراسة كافية وإجراءات أمن.
هكذا تضافرت عناصر المأساة وتصاعدت بسرعة لأيام رعب تحت تهديد سلاح فى يد جماعات قتل لا ترحم انتهت بطلقة رصاص فى (6) يوليو(2005).
لم يكن لمصر أية مصلحة فى إضفاء نوع من الشرعية على سلطة سياسية جاءت بها قوات احتلال.
بضغوط مارستها وزيرة الخارجية الأمريكية فى ذلك الوقت «كونداليزا رايس» على الرئيس المصرى الأسبق «حسنى مبارك» فى منتجع «شرم الشيخ» جرى إرسال السفير الجديد لبغداد.
قيل إن وجوده يساعد على تدعيم «العملية السياسية»، فيما كان المقصود إضفاء غطاء عربى على حكومة عراقية انتقالية تحت سلطة الاحتلال، حتى تحتذى الخطوة نفسها دول عربية أخرى.
لم تكن أطراف عديدة فى الخارجية المصرية، بتقاليدها وأعرافها، مستريحة للإقدام على تلك الخطوة فى توقيتها ودواعيها.
لم يكن خيارا صحيحا توريط مصر فى المستنقع العراقى، غير أن «مبارك» وجد فى طلب «رايس» فرصة سانحة ينتظرها لتخفيف الضغوط الأمريكية فى ملف الإصلاح السياسى.
أعتقد أن لعب دور فى العراق قد يكون أكثر محورية للإدارة الأمريكية من ملفات الإصلاح السياسى.
بتعبير لافت سمعته من الدكتور «أحمد نظيف» رئيس مجلس الوزراء مع عدد من رؤساء تحرير الصحف المصرية قبل زيارة لواشنطن: «الإدارة الأمريكية فى عرض ما يساعدها على الخروج من المستنقع العراقى».
هكذا سارعت وزارة الخارجية فى إرسال سفير جديد على عجل إلى بغداد.
كانت أقدار السفير «إيهاب الشريف» أن يدفع حياته كلها ثمنا لسياسة خاطئة رهنت الأمن القومى لمقتضيات البقاء على مقاعد السلطة.
رغم ذلك لم يكن هناك أى دور مصرى ملموس يعتد به فى التعقيدات السياسية العراقية بعد الاحتلال.
فيما تكشف من محاضر سرية لمجلس الحكم الانتقالى، حضر بعضها السفير الأمريكى «بول بريمر» وقادة عسكريون أمريكيون، لم ترد كلمة واحدة، أو إشارة عابرة عن مصر.
ولم يكن أحد فى الولايات المتحدة مستعدا أن يستمع لنصائح الرئيس المصرى، التى لا يكف عن ترديدها بمناسبة، أو بغير مناسبة.
فى لقاء مغلق مع عدد من المثقفين المصريين عقد بالقصر الجمهورى على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب، وكان الحدث العراقى ملتهبا بشراراته الأولى، روى «مبارك» أنه اقترح على الأمريكيين عدم حل الجيش العراقى، معتبرا أن ذلك سوف يؤدى إلى انفلات أمنى وغياب أية قدرة على السيطرة.
فيما نصح به تشكيل مجلس عسكرى من رتب لواء وعميد لإدارة الدولة العراقية فى مرحلة ما بعد «صدام حسين».
لم يكن الرفض الأمريكى لمثل تلك النصائح تقديرا متسرعا من إدارة «جورج دبليو بوش» وفق الأهداف التى وضعها لاحتلال العراق، ومن بينها تدمير أية مقومات قوة قد تسمح مستقبلا لهذا البلد بلعب دور إقليمى محورى فى المنطقة.
نسبت شهادات أمريكية إلى «مبارك» أدوارا عملت على تسهيل الغزو وتوفير غطاء عربى له.
حسب الكاتب الأمريكى الشهير «بوب ودورد» فإنه نقل للإدارة الأمريكية أن لديه معلومات استخباراتية عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل تتحرك على عربات متنقلة حتى لا تصل إليها لجان التفتيش الدولية.
قصة «مبارك» و«صدام» تتناقض بداياتها مع نهاياتها، من التحالف الإقليمى، وهو من أسباب عودة الجامعة العربية إلى مصر فى أعقاب صعود «مبارك» للسلطة، إلى التحريض الخفى فى الحرب على العراق.
كان لافتا فى مداخلات «مبارك» أمام الكاميرات، أو فى الجلسات المغلقة مع أعداد محدودة من المثقفين أو رؤساء التحرير، تجاهله لأية حجج سيقت عن غياب الديمقراطية فى العراق لتسويغ غزوه.
كان يرى ــ بنص كلامه بعد احتلال بغداد مباشرة ــ أن العراق لا يمكن أن تحكمه غير قبضة حديدية كقبضة «صدام».
فيما روى أن الرئيس العراقى صحبه ذات مرة فى جولة بالسيارة داخل شوارع بغداد، كان يقود السيارة بنفسه وهو بجانبه.
عندما وصلا إلى شارع الرشيد، قال «صدام» لضيفه: «عند هذه الزاوية كنت أقف ومعى سمير النجم، بالسلاح أثناء محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم».
كان استنتاج «مبارك» أن العنف من طبيعة العراقيين وأن ذلك البلد يستحيل حكمه بغير القبضات الحديدية متأثرا بانفراط العقد العراقى وكتل النار التى انفجرت فيه.
لم يحمل الاحتلال أية مسئولية.
بدا ذلك تعسفا فى إصدار الأحكام.
الاستنتاج نفسه يعفى «صدام» من أية أخطاء وخطايا ارتكبت، وينزع عن «مبارك» أية مبررات وذرائع فى نقد نظامه.
قيل وقتها على نطاق واسع إن الحرب من أعمال التحرير وإشاعة الديمقراطية.
رغم اتضاح بشاعة ما جرى فى العراق وبالعراق فإن أحدا لم يعتذر عما قاله أو كتبه.
دمر العراق تماما، التدمير طال كل شىء، وأدت تلك السياسة بما رافقها من مداهمات لبيوت آمنة وتنكيل بشع بالمعتقلين فى السجون إلى رفع سقف العنف إلى حدود غير مسبوقة فى تاريخ مقاومة الاحتلالات فى العصور الحديث كلها.
اختلطت الصور بين عمليات مقاومة للاحتلال مشروعة فى كل القوانين والشرائع الدولية، حظيت وقتها بدعم واسع من القطاع الأغلب فى الرأى العام العربى، وبين عمليات إرهاب استهدفت مدنيين أبرياء، لجأت لوسائل بشعة تنكيلا بأية قيمة إنسانية كخطف المراسلين الأجانب وقطع الرءوس.
انفجرت براكين الجحيم، وكان السفير المصرى أحد ضحاياها.
رغم مرور سنوات طويلة على حادث الاغتيال إلا أن تحقيقا سياسيا لم يفتح حتى نعرف ما الأخطاء التى ارتكبت وكيف ولماذا كان ذلك ممكنا؟!