كلام فى الأمن القومى: كيف وصلنا إلى هنا؟
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 24 فبراير 2019 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
أمام احتمالات التقسيم البادية الآن فى مشاهد النار بالمشرق العربى ومناطق عربية أخرى فإن الأسئلة تطرح نفسها: لماذا انكسر العالم العربى وفقد ثقته فى نفسه ومستقبله، بعد أن حلقت أحلامه فى عنان السماء ذات يوم بعيد؟.. كيف وصلنا إلى الكابوس؟.. ثم إلى أين المصير؟
كانت الوحدة المصرية السورية، التى أعلنت فى (22) فبراير (1958)، نقطة الذروة فى صعود العالم العربى، وتأكيد أمنه القومى وحقه فى اكتساب المنعة.
لم تكن رحلة نيلية ذات صيف، بقدر ما كانت مواجهات مفتوحة امتدت بعمق الخريطة العربية، وقد ارتبطت بالتحرر من الاستعمار والتبعية واستقلال القرار الوطنى، دارت معارك مع سياسة الأحلاف التى اتبعتها الولايات المتحدة فى محاولة لملء الفراغ فى المنطقة بعد الهزيمة السياسية المدوية للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية ومعهما إسرائيل فى حرب السويس (١٩٥٦).
قيمة «جمال عبدالناصر» فى التاريخ أنه عبر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربى قويا معها فتتضاعف قوتها، وهذه الفكرة لا تجىء تاريخيا لمصر إلا ربع ساعة كل مائة سنة ـ بتعبير الكاتب الصحافى الراحل «محمود عوض».
التعبير مجازى لكنه يعبر، بصورة أو أخرى، عن حقيقة لا يمكن تجاهلها أن قوة مصر فى عالمها العربى والخروج منه يفضى إلى عزلتها وتقويض ثقتها فى نفسها، كما يفضى إلى إضعاف العالم العربى وإهدار أمنه القومى.
أرجو ـ أولا ـ ألا ننسى أن الفكرة العروبية الحديثة نشأت فى المشرق العربى، الذى يتعرض الآن لتخريب لمقدراته وتلوح فوق الخرائب خرائط التقسيم المحتملة، لمناهضة سياسات «التتريك»، كما أنها دمجت المسلمين والمسيحيين فى نسيج فكرى وثقافى وسياسى واحد على نحو غير معتاد من قبل، وأحد الأسباب الجوهرية الماثلة حاليا لزعزعة الوحدة الداخلية لبلدان عربية كثيرة، غياب أى مشروع للدمج على أساس قواعد المواطنة والمساواة أمام القانون بين مكوناته وتنويعاته.
وأرجو ـ ثانيا ـ ألا ننسى أن التيار القومى فى اندفاعاته الأولى ناهض مشروع الجامعة العربية عند نشأتها منتصف أربعينيات القرن الماضى، اعتقادا أن الهدف منها الحفاظ على واقع التجزئة فى العالم العربى، وحتى تكون «الدول الإقليمية» حاجزا نهائيا ضد «الدولة العربية الواحدة».
فى اتفاقية «سايكس بيكو» قبل مائة عام قسمت دول واصطنعت أخرى، وبدت الجامعة العربية حاضنة سياسية لما جرى من تجزئة وتقسيم.
كان الدعم البريطانى لمشروع الجامعة العربية داعيا للشكوك والريب فى أهدافه.
وكان صراع الأفكار والسياسات قبل يوليو، هو من أعطى زخما ميدانيا للفكرة العروبية بمعانيها الحديثة.
الآن قمة المنى الحفاظ على حدود «سايكس بيكو»، وصيانة الدول الإقليمية من احتمالات التقسيم حتى لا يضيع كل أمل فى أى مستقبل.
بقاء الجامعة العربية على قيد الحياة أصبح بذاته أملا، إذا ما تهدمت فإن نظاما إقليميا جديدا سوف ينشأ العرب هم الطرف الأضعف فيه.
وأرجو ـ ثالثا ـ ألا ننسى أن نكبة فلسطين عام (١٩٤٨) كانت دافعا رئيسيا للفكرة العروبية وطلب الوحدة.
تحت الصدمة جرت مراجعات رئيسية عما جرى، وما قد يجرى أفضت تداعياتها إلى ضخ دماء فوارة بالغضب والأمل معا فى شرايين الفكرة العروبية.
بات اعتقادا جازما لدى جماعات عديدة ونخب واسعة أن الوحدة العربية طريقنا لتحرير فلسطين، وجرى الربط بينها وبين قضية التنمية والعدل الاجتماعى، بهذا المعنى الواسع أصبحت فلسطين قضية العرب المركزية، فكل فكرة تبدأ وتنتهى عندها.
وقد أدى تفكيك القضية الفلسطينية مرحلة بعد أخرى إلى تفكيك إحدى أقوى الروابط العربية وأخذ التحلل يضرب كل شىء وباتت بديهيات الأمن القومى تحت المقصلة.
وأرجو ــ رابعا – ألا ننسى أن مصر اكتسبت استقلالها الوطنى الكامل فى حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح فى مواجهة العدوان الثلاثى، البريطانى ــ الفرنسى ــ الإسرائيلى، لا بـ«اتفاقية الجلاء» التى وقعها «عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربى والقارة الإفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود فى حرب السويس.
لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلبات، وأى زعم آخر تجديف فى الوهم.
وقد أفضت نتائج حرب السويس بعد عامين إلى الوحدة المصرية السورية، التى لم تدم طويلا بأثر التآمر عليها وأخطاء التجربة نفسها.
يقال عادة: «لا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سوريا».
وقد ثبتت صحته فى مسار وتعرجات الصراع العربى ـ الإسرائيلى.
بحقائق الجغرافيا السياسية إذا ما سقطت سوريا تتقوض مصر ويخسر العالم العربى كله أية مناعة تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره.
وأرجو ـ خامسا ـ ألا ننسى أنه بعد حرب أكتوبر (١٩٧٣) عملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على فصل مسارات التسوية، واعتماد الحلول الجزئية مع كل دولة على حدة لتفكيك ما يسمى بوحدة الموقف العربى، حتى وصلنا بالتدهور إلى «صفقة القرن».
عندما خرجت مصر من الصراع العربى ــ الإسرائيلى بحل منفرد فى اتفاقية «كامب ديفيد» همشت أدوارها فى العالم العربى، كما فى إفريقيا والعالم الثالث بأسره الذى أخلينا مواقعنا فيه وتنكرنا لمعاركنا السابقة التى أكسبتنا وزنا استثنائيا فى معادلاته وحساباته.
علت أصوات ـ هنا فى مصر ـ تشكك فى عروبتها والمعارك التى خاضتها يوليو، وتدعو إلى الحياد مع قضايا العالم العربى.
قيل إن مصر لن تحارب حتى آخر جندى مصرى من أجل فلسطين.
كان ذلك تدليسا على الحقيقة، فمصر حاربت من أجل مصر قبل أى شىء آخر.
جرى تكريس الانكسار كأنه كلمة التاريخ الأخيرة، غير أنه فى نهاية المطاف سوف تعلن الحقائق عن نفسها، فهناك أمة عربية واحدة لكنها ممزقة ومهانة، وعروبة مصر حقيقة لا خيال.
بين حلم الوحدة وكابوس التقسيم قصة طويلة وأليمة أهدرت فيها كل القضايا، وارتكبت كل الخطايا واستبيحت كل محرمات الأمن القومى.