كشف حساب..ستور مصر الجديد
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 25 ديسمبر 2012 - 8:35 ص
بتوقيت القاهرة
الاستفتاء على الدستور لا يمكن تلخيص أو اختزال نتيجته فى مجرد موافقة الثلثين ورفض الثلث، لأن الصورة أعقد من ذلك بكثير، وحساب أرباح وخسائر كل طرف يتضمن العديد من العناصر والاعتبارات التى تضعنا امام نتيجة نهائية أكثر تشابكا، خاصة إذا ما حاولنا تأملها من منظور مصلحة الوطن.
ماذا كسب الاخوان المسلمون وحلفاؤهم؟
كسبوا نصا دستوريا جاء فى نهاية الأمر ضعيفا ومفككا وغامضا، وسوف يثير من المشاكل مستقبلا أكثر مما سوف يحل. وكسبوا ما يعتقدون أنه تثبيت لشرعية الرئيس المنتخب. وتمكنوا من تحقيق السيطرة الكاملة على مجلس الشورى الذى سيكون جهة التشريع الوحيدة إلى أن يتم انتخاب مجلس شعب جديد. وتمكنوا من تجاوز محنة انتفاضة القضاة ــ ولو مؤقتا ــ بل وإعادة النائب العام المستقيل إلى موقعه رغما عن أنف أعضاء النيابة العامة. هناك إذن ما يدعو الاخوان المسلمين وحلفاءهم للاحتفال بهذا الانتصار ويدعوهم للاعتقاد بأن الطريق الآن صارت ممهدة للاستقرار فى الحكم، ولتطبيق برنامج النهضة، ولتحقيق الانطلاق الاقتصادى الذى تتوقعه الجماهير. ولكن الحقيقة أن كثيرا من هذه المكاسب غير حقيقى وأن تكلفة الانتصار فى معركة الدستور قد تكون أكبر على الاخوان المسلمين من مكاسبه.
ماذا خسر إذن الاخوان المسلمون وحلفاؤهم فى المقابل؟
خسروا أولا قدرا لا يستهان به من شرعية الرئيس المنتخب، والتى ضحوا بها فى سبيل تمرير هذا الدستور الهزيل، وهذه خسارة كبيرة لهم ولمصر عموما. شرعية الرئيس لم تكن محلا لجدل أو خلاف حقيقى منذ انتخابه وحتى أسابيع قليلة ماضية، بل كانت القاسم المشترك بين الأطراف السياسية كلها وبين جموع الشعب بمن فيهم من لم يختاره رئيسا. هذه الشرعية اهتزت وتآكلت خلال الأسابيع القليلة الماضية لأنه فى غمرة الصراع على الدستور تجاهل الرئيس عوار تشكيل الجمعية التأسيسية، وانحاز لطرف ضد طرف، وقام بتحصين قراراته من رقابة القضاء، وسكت على حصار المحكمة الدستورية، ثم على حصار مدينة الانتاج الإعلامى، ولم يتدخل لحقن الدماء بين أبناء الشعب الواحد، ولم يكترث بانتفاضة القضاة ضد حصار المحاكم والتدخل فى التحقيقات، وفرض نائب عام مرفوضا من جهاز النيابة العامة، وبشكل عام لم يتصرف كرئيس لكل المصريين، يقودهم ويقرب بينهم ويوحدهم وراء مشروع ديمقراطى يلتفون حوله. ولذلك فالحديث اليوم عن شرعية الرئيس باعتبارها أمرا مسلما به ومحل اتفاق الجميع لم يعد ممكنا لأن الرئيس نفسه وجماعته وحزبه قد فرطوا فى هذه الشرعية ولم يكترثوا بالحفاظ عليها سعيا وراء انتصار مؤقت ودستور لا أتصور أن يعيش طويلا. وأكرر أن هذه خسارة لنا جميعا لأن شرعية الرئيس كانت ضمانة أساسية يرتكن الجميع إليها ويتوقعون أن تخرجهم من الأزمات لا أن تتحول إلى أزمة فى حد ذاتها.
وخسر الاخوان المسلمون وحلفاؤهم أيضا ما ينبغى أن يتمتع به الدستور من مصداقية واحترام ومكانة بغض النظر عن نسبة الموافقين عليه فى الاستفتاء. وهذا هو معنى التوافق: أن يحظى الدستور بالقبول العام فى المجتمع ولو كان هناك من قبلوه ومن رفضوه. اما دستورنا الجديد فسوف يظل رمزا للانقسام والاقتتال بين المصريين والفرقة لا التوافق. وفى تقديرى أن هذا الدستور لن يتمتع بالمكانة المطلوبة لأنه صار موصوما بالانحياز، وبعدم المشروعية، ثم للأسف الشديد بالتزوير خاصة فى المرحلة الثانية من الاستفتاء، وهى أمور لن تفارق مخيلة ووجدان الناس إلى أن يسقط الدستور ويستبدل بنص اخر يحظى بقبول وتوافق أوسع فى المجتمع.
اما الخسارة الأكبر والأخطر لرئيس الجمهورية والحزب الحاكم فهى ما تسببت فيه معركة الدستور من انقسام شديد فى المجتمع وتراجع فى قدرة الحكومة مستقبلا على اتخاذ القرارات التى تتطلب توافقا والتفافا من الشعب حول حكومته ورئيسه. وفى تقديرى أن الملف الاقتصادى سوف يدفع ثمن هذه الخسارة أكثر من غيره. نحن فى وضع اقتصادى شديد الدقة والخطورة، والوقت لم يعد فى صالحنا، ولا مجال للخروج من الأزمة الحالية الا باتخاذ قرارات صعبة بشأن توجيه الدعم لمستحقيه، ووقف تزايد عجز الموازنة، وتشجيع السياحة، وزيادة الاستثمار الأجنبى والمحلى معا، وتشغيل المصانع المعطلة، وكل هذه قرارات لا تحتاج لفطنة وعبقرية اقتصادية بل تحتاج أولا وقبل كل شىء اخر لوحدة الصف واقتناع المجتمع بأن الحكومة تعمل لصالح الجميع. اما الاعتقاد بأن إنقاذ الاقتصاد الوطنى ممكن فى ظل غضب القضاة، وحصار المليشيات للمحاكم والأحزاب ووسائل الاعلام، وانقسام المجتمع، والاشتباكات الدائرة فى الشوارع، فهو وهم كبير. وقيام الرئيس بإصدار ستة قوانين ضريبية جديدة، ثم تجميدها فى الثالثة صباحا (شفهيا لا رسميا)، ثم إلقاء اللوم على وزير المالية وحده، ثم السكوت التام عن الموضوع، مثال ليس فقط لحالة التخبط التى نعيشها وانما أيضا للصعوبة المتزايدة التى ستواجه الحكومة والرئيس فى اتخاذ القرارات الاقتصادية مستقبلا فى غياب توافق مجتمعى.
هل كسبنا أى شىء من هذه المعركة؟
نعم كسبنا الكثير، وأقصد بذلك الوطن بأكمله وليس تيارا سياسيا فقط. كسبنا أن الناس بعد أن كان الإحباط قد أصابها من جراء أداء البرلمان السابق والمائة يوم الأولى والحالة الاقتصادية المتردية، عادت اليها الرغبة فى العمل والمشاركة والاحتجاج. وكسبنا أيضا أن الوعى العام بالدستور وما يمثله من حجر الزاوية فى النظام القانونى أصبح موضوعا يهم الجميع وأن استقلال القضاء صار مطلبا شعبيا استرد به القضاة مكانتهم فى المجتمع. كذلك فإن حجم الاحتجاج الذى عبر عنه التصويت بـ«لا»، برغم التزوير والتلاعب والمخالفات الجسيمة التى شهدتها المرحلة الثانية بالذات، يدل على صحوة حقيقية فى المجتمع ورغبة من الناس فى ألا تتنازل عن حقوقها بسهولة. هناك ظواهر أخرى إيجابية تتطلب المزيد من الدراسة والتأمل: مشاركة النساء خاصة فى المدن صارت واقعا جديدا يفرض نفسه على الساحة وعلى القوى السياسية التى تعلمت ألا تتجاهل المرأة مرة أخرى وإلا دفعت ثمنا باهظا، والرسالة القوية التى جاءت من الصعيد ضد تعالى النخبة السياسية وتجاهل مشاكل الجنوب، والتنسيق بين القوى السياسية المدنية الذى غير من الخريطة السياسية جاء فى الواقع استجابة لرغبة الناس وسوف يجعل من العسير على قيادات الأحزاب المدنية أن تتجاهل جماهيرها مرة أخرى أو تمعن فى البحث عن مكاسبها الفردية.
الخلاصة: كسب الحزب الحاكم دستورا هزيلا لا يتمتع بقبول ولا مصداقية، ولكنه خسر الكثير فى المقابل. وكسبت مصر خريطة سياسية جديدة تبعث على التفاؤل. ولم يعد بإمكان تيار الإخوان المسلمين أن يتجاهل باقى المجتمع بل عليه إدراك أن التعاون مع الآخرين حتمى. أما الدستور فساقط لا محالة، ولو بعد حين.