مقاربات وتساؤلات حول التعديل الوزاري
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 25 ديسمبر 2019 - 11:10 م
بتوقيت القاهرة
بتوقيت متزامن هناك شبه إجماع فى بلدان عربية عديدة على ضرورات التوجه إلى حكومات «اختصاصيين» و«كفاءات» لا تنتمى إلى أى حزب، أو جماعة سياسية، بدواعى الإنقاذ من أزمات مستحكمة.
الأصل فى النظم الديمقراطية أن تكون حكوماتها سياسية، لها توجهات وبرامج معلنة تزكيها عند الرأى العام عبر صناديق الاقتراع.
التعارض بين ما هو سياسى وما هو اختصاصى لا محل له عندما تستوفى النظم استقرارها على قواعد دستورية حديثة.
الدعوات المتزامنة إلى حكومات «اختصاصيين»، التى سادت الموجة الثانية من الحراك العربى فى السودان ولبنان والعراق والجزائر، تكتسب شرعيتها من الغضب على حجم الفساد المستشرى وهدر المال العام وانسداد القنوات السياسية والاجتماعية.
هذه الدعوات محكومة بأوضاع مؤقتة، وأى تصور آخر فهو مصادرة للديمقراطية وإلغاء لأى أمل فى الالتحاق بالعصر.
فيما هو مؤقت وانتقالى قررت «قوى الحرية والتغيير»، الرافعة السياسية للحراك الشعبى السودانى، استبعاد نفسها من حكومة الكفاءات التى ترأسها «عبدالله حمدوك» خشية أن تدخل فى منازعات داخلية تجهض الثورة الوليدة قبل أن تحقق أهدافها فى السلام والتنمية والانتقال إلى نظام ديمقراطى وفق دستور جديد.
بصورة أو أخرى قد تتشكل فى الجزائر «حكومة كفاءات» بعيدا عن الطبقة السياسية المتهمة بالفساد، والتى استدعت موجات غضب أطاحت ببعض أركان النظام دون بعضها الآخر.
هذا الاحتمال يزكيه انتخاب رئيس جديد «عبدالمجيد تبون» يقول إنه يتبنى مطالب الحراك ويدعو للحوار معه، ورحيل رئيس الأركان الفريق «قايد صالح» الرجل القوى.
من ضرورات الاستقرار فى الجزائر تشكيل مثل هذه الحكومة لتخفيض الاحتقان السياسى وبناء قاعدة ثقة بين الحكم والحراك تسمح بتأسيس دولة دستورية حديثة.
فى لبنان بدت الدعوة نفسها مخرجا من أزمة اقتصادية منذرة بانهيار وسط انقسام سياسى متفاقم.
ارتفاع نبرة الخطاب الطائفى مجددا يقلق كل الذين راهنوا على الحراك الشعبى فى إحداث قطيعة مع دولة المحاصصة الطائفية والانتقال إلى نظام جديد يلتحق بالقيم الحديثة فى حقوق المواطنة.
فى العراق لا يبدو الطريق سالكا لـ«حكومة اختصاصيين»، على ما تدعو الجماهير الغاضبة، فالتنازع على المستقبل تحكمه اعتبارات وتدخلات معلنة ومكتومة دولية وإقليمية وشبكات مصالح تستبيح الدماء.
حتى تونس الأكثر استقرارا ديمقراطيا بالقياس على تجارب أخرى بدأت تطرح على نفسها خيار «حكومة كفاءات» للخروج من مأزق التنازع بين اللوائح والأحزاب السياسية على طبيعتها وبرامجها والوزارات الحاكمة فيها.
هذه كلها أوضاع انتقالية، أو مؤقتة، تستدعيها أوضاع معقدة خشية أن تفلت الحسابات والتفاعلات من كل قيد.
من حيث المبدأ العام لا يصح قياس ظروف على أخرى إذا اختلفت وتباينت كما هو الحال فى مصر، التى شهدت تعديلا وزاريا أدخل (6) وزراء جدد وغير فى طبيعة مهام (4) آخرين بعد حوالى عام ونصف العام من إسناد رئاسة الحكومة إلى الدكتور «مصطفى مدبولى».
الحكومة المعدلة لا توصف بأنها «سياسية«، فلا اختيرت بمواصفات السياسة ولا بترشيحات الأحزاب والقوى السياسية، ولا الذين اختيروا للمناصب الوزارية من أهل السياسة والأفكار الكبرى.
هذه الحقيقة تكاد أن تكون سمة رئيسية، مع بعض الاستثناءات، لحكومات ما بعد ثورة «يوليو» (1952).
لسنوات طويلة طرحت ثنائية «أهل الثقة» و«أهل الخبرة»، أيهما أجدر بالتمثيل فى التشكيلات الحكومية.
الثقة تستدعى ــ بالطبيعة ــ شيئا من الالتزام السياسى والخبرة تستدعى ــ بالضرورة ــ شيئا من الاختصاص الفنى.
اصطناع التناقض بين الخيارين ثبت تعسفه، فالسياسى قد يكون اختصاصيا، كما أن الاختصاصى قد يكون سياسيا.
فيما بعد (30) يونيو (2013) ولدت أول حكومة شبه سياسية فى مصر المعاصرة ترأسها الدكتور «حازم الببلاوى» حيث ضمت (9) وزراء ينتمون إلى أحزاب تنضوى فى «جبهة الإنقاذ الوطنى»، التى ناهضت حكم جماعة الإخوان المسلمين قبل أن تتفكك دون سبب مقنع.
لم يتسن للتجربة أن تأخذ وقتها فى النضج حتى يستقر خيار الحكومة السياسية.
تراجعت الحياة الحزبية بصورة حرمت البلد من أى حيوية سياسية، وافتقدت الحياة النيابية أية أدوار يكفلها الدستور فى الرقابة على السلطة التنفيذية.
فى الأوضاع شبه المستقرة الحكومة السياسية خيار إجبارى بقوة الدستور.
بالالتزام الدستورى أول اختصاصات الحكومة «الاشتراك مع رئيس الجمهورية فى وضع السياسة العامة للدولة والإشراف على تنفيذها».
هذا دور سياسى يتطلب وزراء سياسيين لهم خبرة فى وضع السياسات العامة والقدرة على المبادرة فى إطارها.
بعد حكومة «الببلاوى» جاءت حكومة المهندس «إبراهيم محلب»، التى تميزت بنزولها إلى الشارع والمتابعة الميدانية للمشروعات الجارية والاستماع إلى هموم المواطنين وشكاويهم، وقد اكتسبت شعبية كبيرة بالقياس على أى حكومة معاصرة أخرى.
لم تكن حكومة سياسية فى تكوينها وطبيعتها بالمعنى المتعارف عليه غير أن النزول إلى الشارع من طبائع العمل السياسى بأوضح مفاهيمه.
وقد ارتكز اختيار خليفته «شريف إسماعيل» ثم «مصطفى مدبولى» على نظرة واحدة.
كلاهما اختصاصى فى مجاله وناجح فيه، أولهما فى البترول والثانى فى الإسكان.
وكلاهما بلا خلفية سياسية معروفة ولم يعهد عنه عناية كبيرة بميادينها.
فيما تطور أداء الأول من الناحية السياسية والإعلامية ظل الثانى شبه مجهول أمام الرأى العام باستثناء تصريحات مقتضبة على فترات طويلة نسبيا.
إذا لم تكن حكومة «مدبولى» سياسية فهل يصح وصفها بأنها اختصاصية؟
أية إجابة موضوعية تستدعى معرفة الأسس والمعايير التى على أساسها يجرى اختيار الوزراء.
لماذا خرج من خرج فى التعديل الأخير؟.. ولماذا بقى من بقى؟
وما الفلسفة التى حكمت دمج وزارات وإلحاق أخرى برئيس الحكومة مثل الاستثمار والإصلاح الإدارى ونقل وزراء من مهام إلى أخرى دون تفسير أو شرح أو اعتراف أنهم لم يكونوا فى موقعهم الصحيح الذى يناسب خبراتهم؟
ما الحكمة فى دمج وزارتى السياحة والآثار وليس الثقافة والآثار كما كان جاريا على مدى عقود؟
أكثر ما استدعى الاهتمام العام عودة منصب وزير الإعلام دون صلاحيات أو مهام معروفة ودون حقيبة أو موظفين يخضعون لسلطاته.
لا يشك عاقل واحد فى أن الإعلام المصرى قد تدهور بصورة تدعو للأسى والشفقة غلبه الصراخ والتفلت دون اعتبار لقانون أو ميثاق شرف.
هناك من يعتقد أن عودة وزارة الإعلام تساعد على ضبط الأداء وتضخ دماء الحيوية فى شرايين الفضائيات والصحف وهو استنتاج يحتاج إلى مراجعة حيث أحيلت أية مهام مفترضة للوزير، أيا كان شخصه ودرجة كفاءته، إلى هيئات مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الفنى والمالى والإدارى وموازنتها مستقلة وفق الدستور.
جوهر مشكلة النظام الإعلامى فى تعطيل المؤسسات الدستورية، وأهمها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، عن الاضطلاع بأدوارها الحقيقية، التى تتصدرها مسئولية «ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام والحفاظ على استقلالها وحيادها وتعدديتها وتنوعها».
إنها أزمة بيئة عامة تسمح بالتنوع والحوار والانفتاح على الرؤى والتصورات والأفكار المختلفة دون تعريض بأى اجتهادات وأصحابها.
القضية تستحق حوارا حقيقيا بين أهل المهنة، الذين هم فى هذه الحالة «أهل الاختصاص».
إذا كنا نطلب حقا إصلاح الأوضاع الإعلامية المتدهورة لا يوجد سبيل سوى احترام الالتزامات الدستورية وإنفاذها وصيانة الحريات العامة حتى يتنفس البلد بحرية.
مثل هذه الأجواء تساعد باليقين على الانتقال الطبيعى والضرورى مستقبلا من حكومات شبه اختصاصية إلى حكومات سياسية تلبى احتياجات مجتمعاتها.