النبيل حين يستقيل.. محمود مكى نموذجًا

وائل قنديل
وائل قنديل

آخر تحديث: الأحد 26 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

وأنت تتابع انفجارات المستقيلين من مواقع فى مؤسسة الرئاسة، سعوا إليها وعرضوا أنفسهم وتمنوا الجلوس فى مقصورة السلطة العلوية، لا تستطيع أن تمنع نفسك من استحضار حالة رجل نبيل كان نائبا لرئيس الجمهورية، مطلوبا وليس طالبا أو ساعيا، ثم استقال فى هدوء وصمت الكبار.

 

هذا النبيل الكبير هو المستشار محمود مكى القاضى الجليل الذى قبل أن يكون نائبا للرئيس فى مرحلة شديدة الصعوبة، لم يتخل فى أثنائها عن وقار القاضى وعدله وتجرده ونزاهته فى القول والفعل، وحين صدر الدستور الجديد خاليا من النص على وجود نائب للرئيس قرر أن يضرب المثل ويغادر موقعه، على الرغم من أن الدستور لم يتضمن نصا يمنع وجود نائب للرئيس.

 

وأعلم أن محاولات مضنية بذلت من الرئيس لإثناء النائب عن قراره بالاستقالة، كما سعت قوى سياسية وشخصيات وطنية لإقناعه بالبقاء، خصوصا أن المرحلة كانت تتطلب وجوده بكل ما يتمتع به من وطنية واستقلالية وانفتاح على مختلف الأطراف دون انحياز إلا للحق والمنطق.

 

غير أن الرجل كان صارما فى قرار الاستقالة، والأجمل من ذلك أنه لم يستسلم لإغواء الظهور فى وسائل الإعلام، ولم يتصرف مثل حاوٍ يمتلك جرابا كبيرا من الأسرار والخفايا، يدور به على الاستوديوهات ويفتى ويدعى المعرفة والعلم بكل شىء، وينفث مما بقى فى صدره من عدم رضا عن أشياء ومعارضته لأشياء أخرى.

 

فضيلة المستشار محمود مكى الأساسية أنه لم يسلك وفق سيكولوجية «المسئول التائب» الذى يقفز فى حجر الذين يتربصون بمن كان معهم ثم افترق عنهم وابتعد، وعلى ذلك لم نشاهد مكى جالسا بين أنياب التوك شو المتعطش لدماء الفضائح والأسرار والخفايا، ولم نجده ضيفا على صفحات صفراء فاقع لونها، يهاجم ويشتم ويسب ويدعى البطولة والبسالة.

 

إنه لم يتصرف وفق نظرية «الأستيك» فيترك نفسه ليشده الطرف الآخر ويتركه ليلسع الناحية الأخرى بخفة ورشاقة، إمعانا فى إظهار التوبة عما كان فيه بملء إرادته واختياره.

 

ومن المرات النادرة وربما المرة الوحيدة التى قرر فيها نائب الرئيس المستقيل أن يتكلم باقتضاب كانت عندما ادعى الكذابون أن ابنه خريج الحقوق تم تعيينه فى مجلس الدولة على حساب من يستحقون، فأوضح الرجل بجلاء وجلال أن ابنه جرى استبعاده من التعيين رغم أحقيته فيما عين الحاصلون على تقدير أقل منه.

 

لقد رحل محمود مكى عن منصبه مترفعا ورافع الرأس، وكان يستطيع الاستمرار، وسكت سكوت النبلاء المحترمين، وكان يستطيع أن يغرق الاستوديوهات بأطنان من الكلام ويملأ الجرائد بهكتارات من الثرثرة والرغى فيما كان طرفا فيه ولم يكن.. لكن الرجل آثر أن يكسب نفسه ولا يبتذلها على النواصى وفى ظلمات الأزقة.

 

 عِمت صباحا أيها المحترم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved