عبدالناصر واليمن.. مساجلات الستين سنة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 28 سبتمبر 2022 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
اكتسبت الثورة اليمنية فى (26) سبتمبر (1962) قيمتها فى التاريخ من حجم الدور الذى لعبته فى نقل بلد بأسره من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة.
«لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة فلم يختفِ منها الشعر، ولكن المشكلة الحقيقية هى متى يغزوها العلم؟!».
كانت تلك صورة بلد عربى معزول تماما عن العالم ــ كما سجلها «نجيب محفوظ» فى قصته القصيرة «ثلاثة أيام فى اليمن»، التى نشرت عام (١٩٦٩) من ضمن مجموعة «تحت المظلة».
«هل ثمة فرصة لأكتب كلمة سريعة؟
أخى العزيز..
كم وددت أن أودعك قبل الرحيل. أذكرك بالحب والإكبار وأنا على وشك العودة إلى أرض الوطن. ستعود إليه ذات يوم منتصرًا راضيًا بإذن الله. اهنأ الآن بأنك تحارب فى سبيل قضية عادلة، قضية التقدم للإنسان العربى. ومهما تكن العوائق ومهما تكن العواقب فإنك بذرت فى الأرض بذرة من طبيعتها النمو والازدهار».
كانت تلك رسالة الراوى ــ «محفوظ» نفسه ــ إلى جندى مصرى يحارب فى اليمن.
هناك عشرات الشهادات بأقلام كبار المثقفين اليمنيين عن مدى الصدمة، التى انتابتهم عند الخروج إلى العالم ومعاينة وسائل حياة عادية لم تكن تخطر لهم على بال كـ«المكواة» و«ماكينة الخياطة» وأبسط الأدوات الصحية.
القيمة السياسية لشهادة «محفوظ» أكبر من الأدبية، فهى ليست من أعماله التى تستوقف النقاد والقراء.
المثير أنه نشرها بعد أن وقعت الهزيمة العسكرية فى يونيو (1967) ونُسب إلى حرب اليمن ما نُسب.
لم يتردد أن ينشر نصه كما كتبه فى حينه، غير أنه عاد عام (١٩٨٢) عبر إحدى شخصيات رواية «الباقى من الزمن ساعة» للتعريض بحرب اليمن:
«أسمعت ما يُقال عن أغنية أم كلثوم أسيبك للزمن!
يقال إن الأصل أسيبك لليمن».
التناقض فادح بين النظرتين، الأولى ــ انطوت على تقدير بالغ للدور الذى لعبته مصر فى دعم الثورة اليمنية بالرجال والسلاح «من أجل قضية عادلة».. والثانية ــ ذهبت إلى العكس تماما حيث استخدم الحدث نفسه فى التعريض بثورة يوليو والشماتة فى هزيمة (1967).
بعد ستين سنة على الثورة اليمنية تحتاج مصر أن تنصف أدوارها وتضحياتها، وأن تنفض عن كاهلها ادعاءات وافتراءات حاولت بدأب أن تكرس فى الوجدان العام ثقافة الهزيمة، فكل قضايانا خاسرة وكل حروبنا هزائم.
من الناحية الاستراتيجية ساعد التدخل العسكرى فى اليمن على تحرير جنوبه من الاحتلال البريطانى والسيطرة على مضيق باب المندب، حتى بات البحر الأحمر عربيًا بالكامل.
أثناء حرب أكتوبر (١٩٧٣) أغلق المضيق فى وجه الملاحة الإسرائيلية.
كان ذلك إنجازا استراتيجيا هائلا.
نفس القوى التى حاربت مصر فى اليمن سعت ألا يكون لها أية أدوار مستقبلية فى استراتيجية البحر الأحمر تمكنها من التمركز والحركة والتصرف إذا ما تهدد أمنها القومى فى هذه البقعة الحيوية من العالم.
ومن الناحية العسكرية نصبت كمائن حتى تكون حرب اليمن مستنقعًا للقوات المصرية يصعب الخروج منه.
كانت التجربة صعبة بكل معنى عسكرى بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية لليمن وحجم التدخلات المباشرة سعودية وأمريكية وإسرائيلية.
مالت حسابات «جمال عبدالناصر» عندما أطيح بالحكم الإمامى عام (١٩٦٢) إلى أنه لا يصح التردد فى الوقوف بجوار الثورة اليمنية، وإلا فإنه إخلال جسيم بالدور الذى تضطلع به الثورة المصرية فى عالمها العربى.
بالتوقيت جاء الحدث اليمنى الكبير بعد انفصال الوحدة المصرية ــ السورية وتراجع حركة القومية العربية.
كانت تلك فرصة استراتيجية على البحر الأحمر بالقرب من منافع النفط لرد الضربة بأقوى منها.
كان تقديره أن تدخل بعض قوات الصاعقة، وسرب واحد من الطيران يكفى.
وفق شهادة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فإن الحرب اتسعت «لا لأن هذا الطرف العربى، أو ذاك تدخل فيها، وإنما اتسعت الحرب حينما تدخلت قوى السيطرة العالمية، وفى مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأمريكية، التى جندت للحرب آلافًا من الجنود المرتزقة الأجانب، إنجليزًا وألمانًا وفرنسيين وأمريكيين. وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة، ولكن ذاكرتنا ضعيفة ننسى بسهولة ما هو حق لنا ونبتلع بسهولة دعاوى الآخرين علينا.. ننسى أنه فى وقت من الأوقات كان هناك أكثر من خمسة عشر ألفًا من الجنود المرتزقة الأجانب فى اليمن.. وننسى أن لندن ـ كما حدث فى حالة أنجولا ـ كانت مركز تجنيدهم وتسليحهم وإرسالهم إلى اليمن».
كان «أنور السادات» يتولى إدارة الجهد السياسى المصرى فى اليمن، لكنه عندما آلت إليه مقادير الرئاسة رعى حملات التشهير، كأنه لم يكن المسئول السياسى الأول عن الملف!
صبيحة (٥) يونيو (1967) تبدت مشكلة مستعصية مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية أن الجيش المصرى كان موزعًا على جبهتين بينهما آلاف الكيلو مترات.
كان استنزاف الجيش المصرى فى اليمن مقصودًا لأهداف استراتيجية تتعدى الصراع فى هذه البقعة الاستراتيجية إلى انتظار لحظة انتقام عبر الحدود الشرقية من الدور المصرى التحررى.
كان التخلص من «عبدالناصر» على رأس الأولويات فى إدارة الرئيس الأمريكى «ليندون جونسون» بعد أن تخلصت فى العام السابق (1966) من زعامات كبيرة للتحرر الوطنى فى العالم الثالث واحدا إثر الآخر مثل «سوكارنو» فى إندونيسيا و«كوامى نكروما» فى غانا.
كان الوصف الأمريكى لعملية (1967) بذاته دالا على أهدافه: «اصطياد الديك الرومى» الذى يتيه بقيادته لحركات التحرر المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل.
أسوأ معالجة ممكنة لحرب اليمن والدور المصرى فيها الانتقائية بالأهواء وتصفية الحسابات، فلا نعرف ما الذى جرى حقًا؟
المفارقة الكبرى فى ستينية الثورة اليمنية أن اليمن، المحطم والمنهك تحت وطأة احتراباته ومأسيه، يستشعر امتنانا لا حدود له للدور الذى لعبته مصر ستينيات القرن الماضى فيما هى لا تدرك ولا تعتز بإرثها التحررى كما يجب أن يكون.