الإيماءة السياسية الوحيدة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الثلاثاء 29 مارس 2016 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
يصعب بأى قياس سياسى بقاء حكومة «شريف إسماعيل» لعامين ونصف العام على ما خططت فى برنامجها الذى تقدمت به للمجلس النيابى.
الأزمات المستحكمة أكبر من طاقتها وتصوراتها وقدرتها على بث الهمة العامة وإلهام الناس التضحية.
إلهام التضحية عمل سياسى ورؤية تتكامل مواقع نظرها إلى المشهد كله.
لم ينطو برنامجها على استراتيجيات تضبط الأداء العام ولا مشروعات تصلح مؤسسات الدولة المخربة ولا مسارات سياسية قادرة على صنع التوافقات العامة.
بنص الدستور فالحكومة تشارك الرئيس فى صنع السياسات العامة.
وبنص البيان فإنها «تنفذ وتتحمل المسئولية».
هذا ينزع عن الحكومة أية صلة بالسياسات العامة قبل تحمل مسئوليتها.
أى بيان حكومى يطلب الثقة من البرلمان يوصف عادة فى الديمقراطيات المستقرة بـ«خطاب السياسات العامة».
إذا لم يعبر على رؤية تلهم خيارات جديدة فإن أثره يتبدد فى اليوم التالى رغم أية جهود بذلت فى إعداد أوراقه.
باستثناء الاعتراف بأننا فى أزمة اقتصادية فادحة تقتضى إجراءات جراحية صعبة بدا بيان «شريف إسماعيل» تقليديا ومعتادا ومكرورا فى كل البيانات المماثلة للحكومات السابقة.
الأزمة يلخصها رقم رسمى واحد: (٨٠٪) من الموازنة العامة تذهب لفواتير الدعم والأجور والدين العام.
المصارحة بالأرقام إيجابية بذاتها، فلا يمكن تجاوز أية أزمة بلا إدراك لحجمها وطبيعتها غير أنها لا تكفى لتصحيح ما اختل وبناء ما تهدم.
هناك فارق بين السياسات العامة والبرامج التنفيذية.
السياسات العامة مسائل تصورات تسبق المشروعات، تحدد الأولويات وسبل مواجهة تحدياتها، وتبنى مسارات واضحة لأية برامج تنفيذية يضعها الخبراء والفنيون.
فى البيان الحكومى أحاديث مستطردة عن الأهداف دون أن تكون الآليات مقنعة بقدرتها على تغيير البيئة العامة من اليأس إلى الرجاء.
كمثال دال فإن من بين هذه الأهداف تطوير البيئة السياحية لاستقبال (٩) ملايين سائح العام المقبل.
طرح القضية على هذا النحو يصادم الحقائق الواضحة، فالأزمة السياحية سياسية وأمنية قبل أى شىء آخر والاستثمارات الحالية تكفى وتزيد لاستيعاب (١٢) مليون سائح فيما لو توافرت ظروف طبيعية.
نزع ما هو سياسى وتبنى أهداف بلا سياق تحدياتها يشبه الفن التجريدى دون روح الابداع ومهرجانات الألوان.
آخر أزمات السياحة خطف طائرة مصرية إلى العاصمة القبرصية لارنكا.
وهذه لا علاقة لها بتطوير البيئة السياحية.
مثل هذه التحديات الخطيرة تحتاج خطابا سياسيا أكثر احتراما للحقائق وأقدر على الإقناع العام بتحمل المصاعب.
فى التجريد السياسى حديث آخر عن أزمة الزيادة السكانية وخطورتها دون اقتراب جدى أو غير جدى من سبل مواجهتها.
على ذات المنوال اقترب البرنامج الحكومى من أزمات أساسية أخرى مثل التعليم والصحة وسد النهضة دون أن يكون هناك مسارا مقنعا لتغيير ضرورى فى التوجهات والسياسات.
غير أن أخطر ما انطوى عليه من تناقض تعهده بإعادة توزيع الدخل لمصلح الفئات الأفقر والمناطق الأكثر احتياجا.
كيف؟.. سؤال لا إجابة عنه.
مثل هذا التعهد يستدعى فلسفة اجتماعية جديدة وانحيازات أخرى غير تلك التى يتبناها البرنامج الحكومى المتخم بالأرقام والفقير فى السياسات.
قبل أن تعلن برنامجها أمام البرلمان رفعت أسعار الكهرباء والماء والغاز وفق توجه جديد معتمد: «لكل خدمة تقدمها الدولة سعر اقتصادى يقابلها».
التوجه ذاته سوف يمتد إلى خدمات أخرى مثل المواصلات العامة والمستشفيات ودور التعليم دون أن يكون ذلك مدرجا فى البرنامج التفصيلى تجنبا لأية اعتراضات واسعة تنال من الحكومة كلها.
بانخفاض القدرة الشرائية للجنيه المصرى وارتفاع أسعار السلع فى حدود (١٥ــ٢٠٪) بحسب التقديرات المتواترة اتسع الضجر العام فى الطبقة الوسطى والفئات الأكثر عوزا.
هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها ولا القفز فوقها بكلام مراوغ عن إعادة توزيع الدخل.
من يصدق هذا الكلام إذا كان جوهر الإجراءات الجراحية الشروع فى رفع الدعم أو «هيكلة سياساته وآليات التحقق من وصوله إلى مستحقيه» بكلام مراوغ آخر.
الأخطر عدم توافر أية شبكة ضمان اجتماعى موثوق فى قدرتها على تخفيف الأعباء الإضافية على من يوفرون بالكاد أبسط متطلبات الحياة ولا فى دقة بياناتها التى يتطلبها «الدعم النقدى» المقترح.
هناك فارق بين ضرورات تخفيض فاتورة الدعم التى تنوء بها موازنة الدولة المنهكة وبين تحميل كل الفواتير للفئات الأكثر احتياجا وإعفاء الفئات المقتدرة من أية أعباء تناسب دخولهم أو ضرائب تصاعدية تعرفها الدول الرأسمالية الكبرى.
بالتعريف أى برنامج جدى لأية حكومة دليل عمل.
هناك فارق بين دليل العمل ودليل الهاتف.
الأول واضح فى رؤاه ومقنع فى توجهاته والثانى أسماء وأرقام.
بصورة ما تبدت فى البيان الحكومى مواريث الماضى التى تستبعد قضايا الأمن القومى والسياسة الخارجية ومسائل الأحزاب والمجتمع المدنى والمجال العام من أعمال الحكومة.
رغم الإشارة إلى ضرورة التداول السلمى للسلطة وتعزيز دور البرلمان وإقامة مجتمع مدنى حر ومحاربة الفساد وتمكين الشباب فإن الكلام الحكومى كله يفتقد الحد الأدنى من المصداقية.
فى أفضل الأحوال ما جاء فى البيان عبارات منقولة لا التزامات ممكنة.
باتساع النظر فالأزمة المصرية أخطر من أن تحتويها الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
بقدر الأزمات وعمقها تتأكد ضرورات السياسات العامة وسلامتها فى الاقتراب من الملفات الشائكة.
من هذه الملفات إصلاح الجهاز الأمنى، وهو ما تجنب البيان الحديث فيه.
ومن بينها إصلاح مؤسسة العدالة وفق القيم الدستورية، وهو ما لم يتم الإشارة إليه.
وأهمها إعادة النظر فى استراتيجية مكافحة الإرهاب التى ثبت قصورها فى بناء جدار اجتماعى صلب يسد كل الثغرات، وهو ما لم يكن مسموحا للحكومة الدخول فى موضوعها.
فى كل شىء تقريبا «غاب الوضوح» و«التماسك» و«الحقيقة».
هذه المفاتيح الثلاثة اعتمدها رئيس الحكومة الفرنسية الشاب نسبيا «مانويل فالس»، وهو يتقدم ببيان مماثل أمام الجمعية الوطنية لنيل الثقة مجددا فى (١٦) سبتمبر (٢٠١٤).
المثير فى القصة الفرنسية أن «فالس»، بالاتفاق مع الرئيس «فرانسوا أولاند»، طلب تجديد منح الثقة أمام تحديات جديدة وأوضاع اقتصادية قلقة بعد خمسة أشهر من الحصول عليها.
لا تصح المقارنة بين ديمقراطية دستورية راسخة وأوضاع أخرى انتقالية ومرتبكة تضيق على المجال العام وتضيق بفكرة المعارضة نفسها.
ولا بين طريقة الأداء السياسى لرجلين.. أولهما مدرب على الخطابة والتأثير.. وثانيهما تكنوقراطى جاد يفتقد إلى أى خبرة سياسية يعتد بها.
غير أنها تساعد على استيعاب الفوارق الشاسعة بين الحكومات السياسية وغير السياسية، أو بين قواعد تلزم بالرجوع إلى الرأى العام وأخرى تلتزم بالشكل على أفضل الأحوال كأن يكون هناك بيان ما يدعى النواب إلى تمريره بغض النظر عن قدرته على مواجهة التحديات الصعبة.
فى كل المشهد بدت إيماءة سياسية واحدة عندما رفع رئيس الحكومة «شريف إسماعيل» برنامج حكومته التفصيلى، نحو مائتى صفحة، بيده اليمنى قبل البدء فى قراءة بيانه.
الإيماءة لها قوة الإيحاء أن هناك شيئا يستحق الحوار والفخر والقدرة على أننا «نعم نحن نستطيع» بحسب العنوان الذى اتخذ شعارا للبرنامج.
كانت تلك استعارة من الحملة الرئاسية الأولى لـ«باراك أوباما».
فى سذاجة الاستعارة تلخيص ما للهشاشة السياسية التى نعانى وطأتها.