أزمة السوخوى وما بعدها
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 29 نوفمبر 2015 - 10:50 م
بتوقيت القاهرة
تعريف الأزمة أخطر من الحادثة ذاتها.
هناك روايتان متناقضتان لإسقاط الطائرة الروسية «سوخوى ٢٤» بالقرب من الحدود السورية.
الرواية التركية تبرر استهداف الطائرة بأنه من أعمال السيادة فى الدفاع عن مجالها الجوى.
والرواية الروسية تؤكد أنّ الاستهداف متعمد ومقصود وأنه «لن يمر بلا رد».
ما بين الروايتين تتأكد الأزمة الحقيقية بلا رتوش.
فى ظروف عادية يمكن لمثل هذه الحوادث أن تمر باعتذار مقبول من طرف لآخر.
غير أن لا شىء عاديا على المسرح الملتهب الذى سقطت فوقه السوخوى، ولا فى طبيعة العلاقات بين اللاعبين الدوليين والإقليميين الكبار، ولا فى حسابات المصالح والاستراتيجيات المتضاربة قبل أى حسم محتمل فى فيينا للأزمة السورية.
نحن أمام اختبار خشن لأوزان القوى، قبل أى ذهاب جدى للتفاوض وفق الجدول الزمنى المعلن.
استهداف السوخوى هو «طعنة فى الظهر» ــ بتعبير الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين » ــ تمتد معانيه إلى اعتقاده هو نفسه بأنه فى موقف قوة نسبى، بالقياس على أى أطراف دولية أخرى فى تقرير المصير السورى.
كسر الهيبة الروسية نقطة التنشين الرئيسية فى القذيفة التى استهدفت السوخوى.
لم تطلب أنقرة أزمة مجانية تضر بمصالحها الاستراتيجية فى علاقات هادئة مع جار قوى، ولا سعت لإضرار فادح بحجم التبادل التجارى مع موسكو، الذى يتجاوز الـ(٤٠) مليار دولار، فضلا على اتفاقيات الغاز ونسب سياحية مرتفعة.
فى اختبارات السياسة هناك اعتبارات تغلب أخرى، فما الذى دعا تركيا إلى المجازفة بتلك المصالح الاستراتيجية والاقتصادية؟
الأغلب أنها أرادت ــ بتحريض أمريكى مباشر، ودعم صريح من حلف «الناتو» ــ أن تكسر هيبة السلاح الروسى، وأن تؤكد فى الوقت نفسه قدرتها العسكرية على التدخل البرى المحدود داخل الأراضى السورية، فيما يعرف بـ«المنطقة الآمنة»، لقلب موازين القوة على الأرض قبل جولات التفاوض المتوقعة.
بصياغة أخرى، فاقت اعتباراتها الاستراتيجية فى إدارة الأزمة السورية أى اعتبارات أخرى.
لم تكن روايتها مقنعة، فالطائرة سقطت فوق الأراضى السورية، والطيار الروسى الذى نجا من الموت أكد أنه لم يتلق أى إشارات تحذير، بينما لم يتسن لزميله الآخر الذى لقى حتفه أن يدلى بشهادة مماثلة.
فى كل الاحتمالات والسيناريوهات، الرد الروسى لن يكون مباشرا.
لا دعوة «بوتين» مواطنيه لعدم السفر السياحى إلى تركيا، ولا التلويح بالأوراق الاقتصادية جوهر أى رد محتمل أو سيناريو ممكن.
إسقاط السوخوى رسالة استراتيجية متعمدة فى لحظة استثنائية، والرد سوف يكون من نفس النوع.
للدول العظمى وسائلها التى تختلف عن الدول المتوسطة والصغيرة فى إدارة مثل هذه الأزمات.
قوتها تصون هيبتها رغم أى شروخ، ولا تحتاج إلى ردود فعل سريعة لحفظ كرامتها.
أين بالضبط ترد موسكو؟
دون اجتهاد كبير الرد داخل سوريا بالعمل على الإضرار الفادح بالمصالح والرهانات والاستراتيجيات التركية.
لا شىء سوف تحصده أنقرة بالرضا الدبلوماسى، ولا دور عسكريا ممكنا داخل الأراضى السورية دون تكاليف باهظة.
هذا أخطر أنواع العقاب الروسى.
إنه تحجيم الدورين العسكرى والدبلوماسى لتركيا لأقصى حد ممكن.
تكثيف الغارات الروسية فوق المنطقة المفترضة للنفوذ التركى فى اليوم التالى لاستهداف طائرتها توجه استراتيجى لا عشوائى وانتقام ممنهج لا خطابى.
لن تكون هناك منطقة آمنة تركية.
هذه رسالة روسية بقوة القصف ترد على النيران التى استهدفت طائرتها.
قوة الدور الروسى أنه يتحرك فى بيئة عامة تذكى تدخله العسكرى بما لم يكن يحلم به.
بعد العمليات الإرهابية التى روعت باريس وشلت بروكسل وهزت عواصم أوروبية أخرى وأثارت ذعرا فى واشنطن استدعى تحذيرا من البيت الأبيض يدعو مواطنيه إلى عدم مغادرة البلاد تبدت وجاهة عملية فى التدخل الروسى على المسرح السورى.
التوجه الفرنسى الصريح للتعاون العسكرى مع روسيا فى ضرب مواقع «داعش» تطور جوهرى يؤكد الثقة فى جديتها بالحرب مع الإرهاب ويشكك فى الوقت نفسه بأى استراتيجية أمريكية.
كما أن ارتفاع معدلات العنف والإرهاب فى المنطقة، الذى ضرب بقسوة فى تونس وبيروت ولاحت مجددا أشباحه فى سيناء، يؤكد ضرورة أن تكون الحرب على الإرهاب أكثر جدية واستراتيجيتها أكثر حزما.
بأى معنى وسياق الحرب مع الإرهاب باتت «عالمية» وثمة إدراك دولى متزايد بأن أى مواجهة حازمة معه تستلزم التوصل إلى تسوية للأزمة السورية حتى يصبح ممكنا إنهاء «داعش» فى حاضنتها الرئيسية التى امتدت نيرانها إلى قلب أوروبا؟
ليست هناك مصلحة لأحد الآن باستمرار الأزمة السورية وتفشى الإرهاب.
بعض الذين صنعوا «داعش» وموّلوه وسلحوه اكتووا بنيرانه.
اتهام «بوتين» لتركيا بدعم «داعش» من أسباب التوتر بين البلدين.
غير أن القضية ليست فى المناكفة الكلامية بقدر ما هى أن يعمل كل طرف على إثبات أنه قد قطع أواصره مع الذين يروعون ويقتلون حيث يمكنهم الترويع والقتل.
من المتوقع أن تضغط موسكو إعلاميا ودبلوماسيا بورقة الدعم التركى لـ«داعش» لوضع أنقرة فى قفص الاتهام أمام الضمير الإنسانى المروع.
وأنقرة لن تتردد فى النفى غير أن الوقائع تخذلها، وحججها لن تسعفها، فقد أوغلت إلى حدود يصعب إنكارها.
فى الفجوة الواسعة بين الاتهام والنفى قد ترتفع فرص الرئيس السورى «بشار الأسد» على البقاء فى موقعه لفترة مقبلة أكثر مما كان متوقعا.
الذين هللوا لإسقاط الطائرة الروسية لا يدركون حجم الحماقة التى ارتكبت.
حيث يطلبون رحيل «الأسد» فإنهم يثبتونه.
يكفى أن يطالب «أردوغان» برحيله حتى يتأهب «بوتين» لكى يكون أكثر تشددا فى تغيير حقائق القوة على الأرض حتى يصبح مثل هذا الطلب شبه مستحيل.
القضية ليست السوخوى ولا مستقبل «الأسد» بقدر ما هى صراع ضارٍ على النفوذ والقوة فى الإقليم المشتعل بالنيران.
فى صراعات النفوذ القوة يصعب الادعاء أن حادثا مثل إسقاط السوخوى الروسية هو كل الأزمة.
الحقيقة أنه يكشف حقيقة الأطراف المتنازعة ويضع مستقبل الإقليم أمام اختبارات صعبة جديدة.