حول شهادة مبارك: الثورات ليست مؤامرات
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 30 ديسمبر 2018 - 11:45 م
بتوقيت القاهرة
لا ثورة واحدة فى التاريخ نجت من اتهامات التآمر والتخريب عند انقضاء فعلها وتوقف زخمها.
الثورات ليست مبرأة من الأخطاء، فالأحداث الكبرى لا تجرى فى معامل كيمياء تضبط التفاعلات وسلامتها.
لحقت ثورة «يناير» اتهامات مماثلة حاولت أن تنفى شرعيتها وتحيلها إلى محض مؤامرة.
كانت تلك اتهامات انتقامية لا موضوعية ولا عادلة، فالثورة لم تنشأ من فراغ وأسبابها ماثلة فى انسداد القنوات السياسية والاجتماعية وقدر الفساد المتوحش فى بنية الحكم.
وقد كان أحد الأخطاء الكبرى التى ارتكبت فى بدايتها الامتناع عن المحاكمة السياسية لأركان النظام الذى هوى بإرادة شعبه.
المحاكمة السياسية قبل الجنائية أهميتها فى إجلاء الحقيقة الكاملة حتى نعرف لماذا حدث ما حدث؟.. وأين كانت الخطايا الكبرى، حتى يجرى إعادة البناء على أرضية صلبة لا تسمح بتكرارها فى المستقبل؟
لم تحدث أية مساءلة سياسية، ولا خضع الرئيس الذى خلعه شعبه أو أى أحد آخر من أركان حكمه للتحقيق فى الملفات التى أفضت إلى الثورة.
رغم أن دستور (2014) ألزم مجلس النواب فى أول دور انعقاد له بإصدار قانون للعدالة الانتقالية، يكفل كشف الحقيقة والمحاسبة واقتراح أطر المصالحة الوطنية وتعويض الضحايا وفقا للمعايير الدولية لم نتقدم نصف خطوة على هذا الطريق اللازم لسلامة المجتمع وقدرته على النظر بموضوعية إلى تاريخه.
قيل إن المصالحة الوطنية يقصد بها الجماعة وحدها فيما المجتمع كله يحتاج أن يصالح نفسه وأن تشفى جراحه، فضلا عن أن أى حديث عن المصالحة مع الجماعة محض أوهام لا تقف على أرض.
أنشئت وزارة باسم العدالة الانتقالية لم يكن لها أكثر من اسمها، لم تنظر فى ملف واحد حتى ألغيت.
خضع الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» لمحاكمات عديدة لا تدخل جميعها فى صلب الأسباب التى أفضت إلى الثورة على نظامه، بعضها اقتصرت على حدود مسئوليته عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين فى الثمانية عشر يوما ما بين (25) يناير و(11) فبراير (2011)، وبعضها الآخر أدانته بتهمة ماسة بالشرف فى قضية القصور الرئاسية.
الملف السياسى كله لم يفتح من تدهور مكانة مصر فى محيطها العربى والإفريقى والعالم الثالث وارتهان قرارها للاستراتيجيات الأمريكية والإسرائيلية، وتفشى الفساد المنهجى فى بنية الحكم بزواج السلطة والثروة إلى مشروع توريث الحكم، الذى ينفيه «مبارك» رغم أنه استهلك عشرة أعوام أنهكت أعصاب البلد ووضعت مصيره أمام مجهول.
رغم الإثارة الإعلامية والسياسية لمثول رئيس مخلوع كشاهد لا كمتهم، فيما رئيس آخر معزول خلف القضبان يتابع دون أن يتدخل، فإن الشهادة التى أدلى بها أمام محكمة جنايات القاهرة فى قضية اقتحام الحدود الشرقية أثناء ثورة (25) يناير لم تضف جديدا إلى العلم العام.
يبدو من سياق الشهادة أنها خضعت لتصميم مسبق من محاميه، تجنبا لأية مطبات محتملة، متذرعا بعدم قدرته على كشف معلومات وأسرار قد تؤثر على الأمن القومى قبل الحصول على إذن مسبق من القوات المسلحة ورئاسة الجمهورية.
كما أن الصورة التى بدا عليها، رغم أثر السنين على ملامح وجهه، خضعت لتصميم آخر حاول إزالة الأثر السلبى لظهوره أثناء المحاكمات السابقة نائما على سرير طبى مغمض العينين لا يدافع عن نفسه أمام شعبه الذى يتابع المحاكمات.
الصورة اختلفت هذه المرة من حيث المظهر والأداء.
فى صلب الشهادة المصممة لم يجب عن أى سؤال جوهرى قد يحمله مسئولية التقصير فى حماية الحدود، وهى فى صدارة مهام موقع رئيس الجمهورية.
أخطر الأسئلة التى لم يجب عنها: لماذا لم يقبض على أى أحد من الذين اقتحموا الحدود، وعددهم حوالى (800) حسبما أبلغه رئيس المخابرات الراحل اللواء «عمر سليمان».. وكيف اقتحمت السجون دون أن تكون هناك حراسة كافية تصد وتحمى هيبة الدولة؟
كيف تسنى لذلك العدد الكبير من المتسللين الوصول إلى ميدان التحرير دون أدنى اعتراض لمواكب سياراتهم؟
وما حقيقة ما أسندته إليهم بعض الشهادات الأمنية من أنهم أطلقوا الرصاص على المتظاهرين من أعلى البنايات فى ميدان التحرير؟
الاتهام المرسل لا يؤسس لرواية متماسكة ومصر فى حاجة أن تستجلى الحقيقة حتى تعرف على وجه اليقين من أطلق الرصاص من فوق البنايات على المتظاهرين السلميين.
هناك أسئلة أخرى حساسة بينها: من قتل اللواء «محمد البطران» مدير مباحث السجون؟
الإجابات متناقضة والغموض يستحق الإجلاء.
بدت شهادة «مبارك» تكرارا متحفظا لشهادات أمنية سابقة دون أن تتضح كيف كانت الصورة فى مركز صنع القرار فى أيام «يناير» الحاسمة!
إحدى الفرضيات التى لا يمكن استبعادها أنه ليس لديه ما يقوله عن هذه الأيام، حيث كان نظامه على وشك السقوط والجهاز الأمنى فى أوضاع تشبه الانهيار، وتدفق المعلومات متقطع ومرتبك.
اللافت أنه تجنب وصف أحداث «يناير» بالمؤامرة، وقال إن الحكم للتاريخ، كما تجنب أى حديث حول طبيعة العلاقة التى جمعت نظامه بجماعة الإخوان المسلمين، ولا أبدى رأيا فيما إذا كان هناك اتفاق بين الإخوان والتنظيم الدولى لإحداث الفوضى والاستيلاء على الحكم ونقل فلسطينيين من غزة إلى سيناء بمشاركة تركية.
قال نصا: «لم أسمع عن هذا المخطط».
أى مؤامرة تستدعى مخططا لها وأطرافا يثبت بحقهم التواطؤ.
قد يكون شيئا من ذلك قد حدث لكنه لم يقم دليلا عليه.
«كانت نظرة الدولة للإخوان أنهم مواطنون، وطالما يمارسون نشاطا تجاريا فى نطاق القانون فلا مانع».
لا تعكس هذه العبارة حقيقة القصة ولا مغزى الصفقات الانتخابية التى أجريت مع الجماعة عام (2005) ولا اعترافا بمسئوليته عن مغبة التلاعب بالدستور والتضييق على القوى المدنية بمثل هذه الصفقات.
بالتزوير الفادح لانتخابات (2010) أغلقت كل القنوات السياسية فى البلد وبدا التغيير وشيكا.
كانت جماعة الإخوان المسلمين آخر من دخل ميدان التحرير وأول من خرج منه كما كتبت نصا فى حينه.
اختطفوا الثورة ولم يصونوا أهدافها وجرى ما جرى من صدامات ومآس.
من أسوأ ما يترتب على أحاديث المؤامرة نسبة الثورة جذر الشرعية الدستورية إلى الجماعة وحرمان ملايين المصريين من شرف القيام بها ودفع فواتير الدم فى ميادينها، أملا فى دولة ديمقراطية مدنية حديثة.