إذا عملنا إحصاء لأكثر الموضوعات قراءة فى الصحف والمجلات (لمن مازال يقرأ) فماذا تعتقد أن نجد؟ أعتقد أن الأكثر قراءة ستكون أخبار الرياضة ثم السياسة ثم الفن! طبعاً من الممكن أن يكون لك رأى آخر ولكن هل الرأى الآخر لا يحتوى على هذه الموضوعات (ولو بترتيب مختلف)؟ إذا كان الأمر كذلك فما هو السبب؟ في رأيي المتواضع السبب يتلخص في كلمتين: السهولة والإثارة، أغلب الناس تتصفح الجرائد والمجلات فى أوقات الفراغ (وفي بعض الأحيان في ساعات العمل!) للتسلية وإضاعة الوقت وهذا يتطلب أن تكون المادة المقروءة سهلة ولا تطلب مجهوداً ذهنياً كبيراً وجزء من "الترفيه" أن تحتوي المادة على حدث مثير وكثيراً ما يكون العنوان أكثر إثارة من المحتوى!
لا أعتقد أن أي إحصاء ستحتوي نتيجته على الموضوعات العلمية كمادة من أكثر المواد قراءة ... للأسف! في هذا المقال نحاول أن نحلل هذا الداء (نعم هو داء) علنا نجد له الدواء.
أعتقد أن هناك عدة أسباب لهذه الظاهرة:
أولاً ندرة الموضوعات العلمية فى الجرائد والمجلات عندنا، ستجد أخبار الرياضة وتحليل المباريات وأخبار الفن تقريباً فى جميع الجرائد والمجلات ولكن كم جريدة فيها صفحة (أو حتى عمود) "يومي" للعلوم؟ كم جريدة متخصصة فى العلوم عندنا؟ الأعداد قليلة طبعاً ولكن ذلك هو نتيجة العرض والطلب، إذا كان عدد القراء قليل ستنكمش المساحة المخصصة لهذا المحتوى.
ثانياً الوعى العام عندنا لا يعطي أهمية للمحتوى العلمي ما لم يكن خبراً عن فوز أحد من عندنا بجائزة عالمية فنحتفي به ونفرح ... ونكتفي بذلك وأحد أسباب ذلك أن أغلب الناس قد تكون مقتنعة بفائدة العلم عامة ولكنها ليست مقتنعة بفائدة قراءة العلم ( مثلاً أغلب الناس تقرأ عن الدكتور زويل وإنجازاته ولكنها لا تقرأ عن أبحاثه وأهميتها وما هى إكتشافاته بالضبط!).
ثالثاً الصحافة العلمية عندنا ليست منتشرة رغم وجود بعض الأسماء اللامعة إلا أن هذا النوع من الصحافة مازال فى مهده لقلة عدد من يعملون به وعندي أمل كبير أن يتغير ذلك على يد بعض الأصدقاء الذين يبذلون مجهودات كبيرة فى هذا الطريق.
رابعاً هل تتمتع المقالات العلمية بالسهولة والإثارة؟ الإجابة عن النصف الثاني سهل: لا!!
إذا وجد قارئ عادي خبر عن طلاق فنانة أو مشاجرة على الهواء بين إعلاميين مثلاً وخبراً آخر عن إكتشاف علمي كبير فأي الخبرين سيقرأ؟ أعتقد أن الإجابة معروفة، للأسف وهذا ناتج عن أننا لم ننجح بعد في بناء مجتمع علمي.. المجتمع العلمي ليس معناه مجتمع من العلماء ولكن معناه مجتمع يقدر المعلومة العلمية وأهمية العلم والتفكير العلمي.. وهذا يبدأ من التعليم وقد تكلمنا فى عدة مقالات سابقة عن
التعليم و
المعلم و
الطالب، وتكلمنا عن
القراءة العلمية (وهي لا تقتصر على قراءة المواد العلمية فقط) والكتابة العلمية (وهى بخلاف النشر العلمي)، يبقى أن نتكلم عن "السهولة" ولكن دعني أعطيها إسماً آخر: الكتابة الأدبية فى العلم.
المقال العلمي الموجه للعامة يجب أن يتصف بعدة صفات أولها السهولة، كما قلنا في بداية هذا المقال الغالبية العظمى تقرأ المقالات من أجل الترفيه وفى أوقات الراحة وآخر ما تريده أن يكون المقال صعباً لأن القارئ في هذه الحالة سيتركه في لحظتها!
هل معنى ذلك أن كل مقال علمي سهل سيجد قبولاً عند الناس؟ بالطبع لا!
يجب أيضاً أن يكون ممتعاً أو بمعنى أوضح مسلياً أو مثيراً، فى الصحافة العلمية الأجنبية نجد الكثير من الروائع في هذا المضمار مثل مقال
ريتشارد بريستون (Richard Preston) الرائع في مجلة النيويوركر عن الإيبولا وهو موضوع صعب ملئ بالموت وخارج تخصصي ولكن أتحداك أن تبدأ هذا المقال ولا تنهيه رغم طوله!
أو مقال
مالكوم جلادويل (Malcolm Gladwell) عن علاج السرطان (بنفس المجلة ولكن عدد مختلف) ... هذه أمثلة من مقالات عن موضوعات من خارج تخصص القارئ (والكاتب أيضاً فمثلاً ريتشارد بريستون حصل على شهادته الجامعية فى الأدب!!) وهى موضوعات كئيبة إلى حد ما (فيروسات وأمراض مميتة ...) ولكنها مكتوبة بمهارة وحنكة تجعلك تنسى الدنيا من حولك وأنت تقرأها!
الكاتب يعزف بالكلمات مقطوعة علمية تلهب قلب القارئ وعقله فيستمتع بجمال الكلمات بقلبه وجمال العلم بعقله!
إذا الدواء هو العمل على جعل مجتمعنا مجتمع علمي (وهذا يحتاج جيل فى إعتقادي لأنه لا يحدث في يوم وليلة) ثم كتابة المقالات العلمية بقلم الأديب، عندها سيقبل الناس على القراءة العلمية، وبالتالي ستزيد المساحة المخصصة للعلم فى مجلاتنا وجرائدنا!