الثـورة واللحمة - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأربعاء 12 فبراير 2025 9:24 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

الثـورة واللحمة

نشر فى : الخميس 1 نوفمبر 2012 - 9:00 ص | آخر تحديث : الخميس 1 نوفمبر 2012 - 9:00 ص

استوقفنى خبر صغير نشرته إحدى كبريات الصحف المستقلة صباح أول أيام عيد الأضحى، ولعله لم يستوقف الكثيرين، بل إنه يمكن أن يكون قد أدخل السرور على بعضهم. كان المانشيت الفرعى للخبر يقول «6 أبريل تواجه لحوم الحرية والعدالة بشوادر للغلابة». قلوب غالبية المصريين وأنا منهم موجوعة على ما آلت إليه الثورة، وجاء الخبر ليزيد الوجع فى قلبى. روت تفصيلات الخبر أن «الحرية والعدالة» استعد فى الشرقية بكميات كبيرة من اللحوم السودانية لبيعها للمواطنين بأسعار مخفضة، من خلال بعض الجمعيات الأهلية ومقار الحزب على مستوى المحافظة، وتراوح سعر الكيلو منها بين 40 و45 جنيها. لم يكن مصدر ألمى من الخبر أننى لا أحب توزيع اللحوم على المواطنين بأسعار مخفضة (لاحظ أن هذه الأسعار ما زالت بعيدة عن متناول يد الفقراء)، كما أن الخبر لم يفاجئنى، فهو أسلوب مألوف لجماعة «الإخوان المسلمين» ولحزب «الحرية والعدالة» لاحقا، بل إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتشكيله السابق كان يأتى بأفعال من هذا النوع وللغرض ذاته: كسب رضا المواطنين وثقتهم بأساليب ليست لها أدنى علاقة بالسياسة، لكن مصدر انزعاجى حقيقة كان ما ذكره الخبر عن إقامة «حركة 6 إبريل» شوادر لبيع اللحوم «للغلابة» بمدينة العاشر من رمضان بأسعار مخفضة، وكان بعض الأحزاب والتنظيمات المدنية الأخرى قد تورط من قبل فى هذا الأسلوب، أى أنه أصبح شاملا المجتمع برمته أو على الأقل فى طريقه لذلك.

 

 

 

ما الضير فى هذا كله؟ الضير هو أن نعود جميعا القهقرى إلى ما قبل ثورة يناير، ففى ذلك الوقت كان النظام السابق يفرغ بدأب شديد وهمة لا تفتر جوهر علاقته بالمواطنين من «السياسة» تماما، فهناك خط واحد سليم فى المجتمع هو خط النظام الحاكم، وما دام الأمر كذلك فما ضرورة المعارضة؟ بل ما معنى أن تكون هناك تفاعلات سياسية أصلا؟ فإذا عارض البعض ذلك من «المارقين» كان جزاؤه القمع المعنوى بأساليب ظاهرها احترام القانون وباطنها منتهى الاستهانة به وسحقه سحقا، كما كان يحدث فى مجلس الشعب عندما يُترك للمعارضين حق الاعتراض على مشروع قانون ما، ثم تتكفل آلية موافقة «الأغلبية» فى لمح البصر بوأد تلك الآراء المعارضة مهما كانت وجاهتها، وكان أقصى ما يُقبل من المعارضة هو تعديل لفظ أو تطوير صياغة وما إلى هذا القبيل، كما كان الحال فى برنامج عرفته الإذاعة المصرية منذ عشرات السنين اسمه «الغلط فين»، وكان قوام البرنامج أن يستمع المتسابقون إلى مقاطع من أغنيات مشهورة جرى تعديل كلمة أو اثنتين فيها، ومن يكتشف هذا التحريف ويصححه يفوز بجوائز البرنامج، ولا يهم بعد ذلك رقى كلمات الأغنية أو جمال لحنها أو عذوبة صوت مغنيها، فهذا شىء بعيد عن الاهتمام الذى يجب أن يركز على التفاصيل المتناهية فى الصغر.

 

ثم يأتى القمع المادى لمن يجاهرون فى الشارع بمعارضتهم الجذرية، فلا يكون جزاؤهم سوى الإيذاء البدنى والاعتقال والتعذيب والقتل أحيانا. وهكذا لا يبقى أمام المواطن العادى سوى الاطلاع فى صمت على إنجازات الحكومة وربما الإشادة بها، والانشغال بأمور أخرى طالما أن «للسياسة نظاما يحميها»، وما أجمل مشاهدة الفضائيات ومتابعة ما تعرضه من توافه الأمور من فضائح وأسرار وما إلى هذا فيما يذكر بالفيلم الخالد «451 فهرنهايت» الذى يصور حكما أقدم على حرق الكتب (451 فهرنهايت هى الدرجة التى يحترق عندها الورق)، وشغل الناس ببرامج تليفزيونية على شاشات عملاقة تقدم برامج كبرنامج «الغلط فين»، وهنا تظهر نخبة مثقفة مسئولة عن حفظ الذاكرة السياسية والثقافية للوطن تسمى نفسها بـ«أهل الكتب» Book People، ومسئولية كل فرد منها أن يحفظ كتابا كى يبقى لما بعد هذا النظام الشمولى، فيحفظ هذا «جمهورية أفلاطون» وذاك «السياسة لأرسطو»، وما إلى هذا.

 

امتدت ظاهرة «اللا سياسة» للقيادة، فما دام هناك قائد غير قابل للتغيير فإن معنى هذا أن خطه السياسى سليم وغير قابل للمناقشة، ولا يصبح أمام المواطن العادى سوى أن يتساءل هل يبقى معنا حتى «آخر نفس» أو «آخر نبضة فى العروق»؟ وهل يكون خليفته هو ابنه جمال ــ وهو أمر منطقى فى ظل الظروف السائدة آنذاك ــ أم غيره؟ ولقد بلغت «اللا سياسة» لقطاع من الرأى العام المصرى أن تساءل فى أعقاب أحداث مباراة الجزائر الشهيرة بعد أن أدلى الابن الآخر لرئيس الجمهورية بتعليقات متدفقة وحادة تدغدغ مشاعر المتعصبين: لماذا لا يكون «علاء» هو الرئيس القادم بدلا من جمال الذى لم يكن يلقى قبولا شعبيا؟ فى تلك الأثناء طرحت نخبة قليلة من المعارضة همومها بصدد غياب «السياسة» على الحوار العام، لكن أدوات الحزب الحاكم وبالذات الإعلامية تكفلت ببيان «فساد» وجهة نظر هذه النخبة مستشهدة فى ذلك بأمور من أهمها الحوارات التى كانت تدور بين الحزب الوطنى الحاكم وبين عدد من الأحزاب الورقية حول توافه الأمور.

 

 

 

ثم جاءت ثورة يناير بالمشاركة الشعبية الطاغية لتمثل ذروة «السياسة» من جانب الشعب المصرى، وأعقب نجاحها اتخاذ خطوات كانت تتطلب بدورها مشاركة شعبية واسعة، وكان لدى المواطنين العاديين حماس منقطع النظير ليس للمشاركة فحسب وإنما للفهم، وتصورت حينذاك أن ظاهرة «اللا سياسة» قد ولت إلى الأبد لأفاجأ بها بعد مدة وجيزة تحاول العودة إلى جوهر حياتنا السياسية، وقد قامت الأحزاب «الدينية» بدور لافت فى هذا الصدد، فالاستفتاء على التعديلات الدستورية فى جوهره بالنسبة لها ليس استفتاء سياسيا، وإنما هو اختيار بين الإسلام والكفر، ومرشحو هذه الأحزاب هم الذين يتعين على المواطن أن يصوت لهم لأنهم «رجال الله»، ولا بأس من تجريم الانضمام إلى حزب بعينه بفتوى دينية، والتسميات ذات الطابع الدينى فى انتظار المعارضين إن واتتهم الجرأة على الاعتراض، فهم حينا «سحرة موسى» وحينا آخر «كفار قريش»، وغير ذلك الكثير فأنّى للمواطن العادى أن يهتم «بالسياسة» بعد أن أصبحت القضية هل أنت مع شرع الله أم ضده؟ ومن ناحية أخرى دأبت الأحزاب «الدينية» فى دعايتها الانتخابية على توزيع «مغانم» مادية على الفقراء من زيت وسكر وصابون وما إلى هذا، وهكذا يصبح الاختيار الذى يفترض أن يكون سياسيا للمواطن هو اختيار بين من أستفيد منه ومن لا أستفيد من ورائه شيئا، وليس بين برنامج وآخر أو رؤية ونقيضها، ثم دخل بعض الأحزاب المدنية إلى الحلبة مستخدما الأساليب نفسها، ومن هنا جاءت الطعنة من الخبر الذى بدأت المقال بالإشارة إليه، فلو تنافست الأحزاب كلها على بيع اللحوم وغيرها سوف تصبح تفضيلات المواطنين التى يفترض أن تكون سياسية تفضيلات بين كميات اللحوم وأسعارها وجودتها، وهذه هى خطوة البداية نحو نظام شمولى جديد يحتكر فيه الحكم كافة القرارات دون مشاركة شعبية حقيقية، ويفترض أن الحكمة من نصيبه وحده. ولماذا نذهب بعيدا وأصحاب النظام السابق يتهيأون منذ مدة للعودة إلى مؤسسات النظام من جديد.

 

 

 

هل بالغت كثيرا فى تحميل الخبر الذى بدأت بالإشارة إليه أكثر مما يحتمل؟ ربما. ولكن الخبرة الماضية تدفع إلى الحذر، ومؤشرات غياب «السياسة» من جديد أكثر من واضحة، وليس من حل لهذا الخطر القادم ــ أو على الأقل المحتمل ــ سوى أن يتكاتف أنصار «السياسة» من أجل الحفاظ على القفزة النوعية التى حدثت فى أعقاب ثورة يناير، ويتحمل المثقفون دورا بالغ الأهمية فى هذا الصدد، ولنتهيأ جميعا لصد الخطر الذى سوف يمثل تصفية نهائية لجوهر الثورة إذا نجح فى التسلل إلينا من جديد وإحكام قبضته علينا.

 

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومدير معهد البحوث والدراسات العربية

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية