علم السياسة ومستقبل الوطن - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

علم السياسة ومستقبل الوطن

نشر فى : الأحد 1 ديسمبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 1 ديسمبر 2013 - 8:00 ص

ماذا يفعل العشرات بل وربما المئات الذين يظهرون فى وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمقروءة والمرئية الذين تتذيل أسماؤهم المسبوقة بحرف الدال غالبا فى السياق العام؟ ما الذى يجب أن نتوقعه من هؤلاء ذوى الألقاب المختلفة، مثل أستاذ علوم سياسية، باحث سياسى، خبير سياسى.. إلخ، حينما يظهرون لتحليل وإذا تواضعوا قراءة المشاهد السياسية الملتهبة فى مصر والعالم العربى؟ لم يخطر على بالى وأنا من ضمن هذه الفئة هذا السؤال إلى أن وجه إلى أحد المعارف نقدا عنيفا متهما أمثالى بـ«الرغى» والتنظير والتقعير دون التأثير على مقدرات الأمور أو حتى القدرة على الإجابة عن أبسط الأسئلة التى يوجهها العامة إلى أمثالنا «مصر رايحة على فين؟».

والسؤال الماضى على بساطته إلا أنه من أصعب الأسئلة التى قد توجه إلى أى دارس لعلم السياسة، لأن الأخير متهم عالميا بعدم القدرة على التوقع، بل هناك فريق آخر يرى أن «السياسة» ليست فى الأصل «علمًا»، بل هى مجموعة من النظريات والاقترابات والمفاهيم التى قد تقوم بتقديم قراءة أولية أو فى أقصى السيناريوهات تفاؤلا تحليلا أوليا للأوضاع الراهنة دون القدرة على التعميم مما قد يساعد فى التوصل إلى قوانين علمية قادرة على توقع الظواهر السياسية مثلما هو الحال فى العلوم الطبيعية. ولعل القارئ يتعجب حينما يعرف أنه فى عام ٢٠٠٨ أصدر عالم النظم السياسية المقارنة تود لاندمان كتابه «قضايا ومناهج فى تحليل السياسات المقارنة»، الذى أقر فيه بأنه وبعد أكثر من قرن من التحليل فإن علم السياسة لم يتوصل إلا إلى ثلاثة قوانين يمكن تعميمها على الظواهر السياسية، لعل أشهرها ذلك القانون الذى يدعى أن الديمقراطيات لا يحارب بعضها بعضا، وآخر يربط بين اتباع النظم الانتخابية القائمة على نظام القائمة النسبية والتعددية الحزبية فى مقابل النظام الفردى الذى يخلق حزبا واحدا قويا أو حزبين!

•••

وفى السياق نفسه كتب عالم السياسة الأمريكى جريجورى جوز فى ٢٠١١ يسأل: لماذا لم تتوقع مراكز الأبحاث والعشرات من المشاريع البحثية المرتبطة بدراسات الشرق الأوسط الربيع العربى؟ وعرض الباحث، وهو يلوم نفسه لأنه أحد هؤلاء، لأسباب عديدة لهذا الفشل كان من ضمنها عجز الاقترابات النظرية التقليدية الدارسة لمنطقة الشرق الأوسط على فهم تفاعل العديد من العناصر المتفاعلة على الأرض والتى أدت فى النهاية لثورات الربيع بينما كان معظم باحثى الشرق الأوسط مشغولون فى نظرياتهم العطبة بعيدا عن واقع الشارع.

•••

واذا تحولنا من الجدل الدولى إلى الشأن العربى عموما والمصرى تحديدا، نجد أن عناصر عدة تلعب دورا هاما فى إعاقة باحثى وعلماء السياسية ليس فقط على التوقع، بل وحتى على التحليل (رغم وجود الاستثناءات المحدودة) لعل أهمها:

• علم السياسة وبيئته: فمشكلة علم السياسة فى مصر أنه متأخر عشرات السنوات عن نظيره الغربى، فهو يستخدم، نظرا لمحدودية الإمكانات من ناحية، وتواضع بعض الباحثين بسبب مشاكل العملية التعليمية من ناحية أخرى، فضلا على السياق السلطوى الذى يعمل به علماء السياسة عموما ويعوقهم عن البحث الحر الأكاديمى المحايد من ناحية ثالثة - نظريات قديمة عفا عليها الزمن من ناحية، فهى قد صممت خصيصا لتحليل فترة مابعد الحرب العالمية الثانية فى الغرب، ومن ناحية ثانية فهى ليست وليدة بيئتها وبالتالى فهى تتحدث عن أطروحات نظرية غير ذات صلة بالواقع المراد تحليله. ورغم أن جهدا محمودا وجادا قد بذل لتأطير علم السياسة فى إطاره الحضارى فإنه ومن وجهة نظرى المتواضعة فقد حصر المنظور الحضارى فى تجربته الإسلامية من ناحية، ثم ضيق الأخيرة على تجربة عهد الرسول والخلفاء الراشدين والأولين رغم اختلاف بيئتهم السياسية ومعطياتها كلية عن البيئة الحالية من ناحية أخرى، فاتخذ أوضاعا دفاعية أعجزته من التحول إلى علم منشود فى سياقه العصرى.

• علم السياسة والتمويل: لا أبحاث جادة وامبريقية (مرتبطة بدراسة الواقع العملى) دون ميزانيات ضخمة، ولأن الأخيرة غائبة لطبيعة الظروف الاقتصادية، فقد ارتبط عدد من الباحثين العرب بأجندة غربية حددت أولويات القضايا المعالجة دون مراعاة الواقع فانتهت هذه الأبحاث إلى وضع العربة أمام الحصان، فالنزول من النظريات الغربية ومفاهيمها فى تجربتها الليبرالية إلى الواقع المصرى والعربى المعقد، جعل الأبحاث فى أغلبها غريبة عن بيئتها مما أعجزها عن التوقع لأنها ببساطة فقدت بوصلة الفهم!

• علم السياسة والممارسة: إن قدرة عالم السياسة على التوقع فضلا عن الفهم قد ترتبط أحيانا بخبرة ممارسة العمل العام، ورغم أن جدلا آخر مطروحا بين علماء السياسة عما إذا كانت ممارسة عالم السياسة للعمل السياسى تفقده صفه «العلم» لأنه يخلط بين المواقف الأيديولوجية والحزبية الجامدة بطبيعتها عن المرونة والحيادية اللازمة للبحث والتحليل، إلا أن الخبرة الدولية تستدعى تجارب ناجحة لعلماء مارسوا العمل العام بنجاحات متفاوتة، مما مكنهم من خلط الخبرة العملية بنظيرتها النظرية، وهو ما انعكس على قدرتهم على التنظير المرتبط بالواقع ومن ثم التأثير على مقدرات الأمور. ورغم أن السياق المصرى قد شهد استثناءات ناجحة فى هذا السياق خلال السنوات القليلة الفائتة، فإن الغالبية ممن نزلوا إلى العمل العام إما أنهم فشلوا تماما فى تغيير الواقع لافتقارهم إلى الخبرة اللازمة أو أن بعضهم للأسف تحول إلى التخديم على ما يريده السياسى! فهناك فرق شاسع بين أن تعمل فى المطبخ من أجل أن تغير مواصفات طبخاته وبين أن يكون جل عملك هو إخراج الطبخة المطلوبة.

• علم السياسة والموقف: كما أننا يجب أن نفصل بين أن يقدم باحث السياسة علما مجردا وبين أن يتخذ موقفا أيديولوجيا وبين أن يدافع عن قضية عامة، فحينما أقول إنى لا أرغب فى تولى عسكرى أو علامة دينى قيادة الدولة فهذا موقف أيدولوجى نابع من أيديولوجيتى الليبرالية المدنية، وحينما أدافع عن ضحايا فض الاعتصامات فى رابعة فهذا موقفى الحقوقى، أما حينما أقول لك إن تحليلا متواضعا للواقع يقودنا بالضرورة إلى فاشية عسكرية فهذا ما أدعيه علما أو أضغاث علم، فالتفرقة واجبة ولا تعارض!

• علم السياسة والإعلام: ربما أحتاج مقالة منفصلة للحديث عن هذه النقطة، فالإعلام جذاب، فهو يضفى شهرة وليس بالضرورة مالا ويفتح أمام باحث السياسة مساحات وآفاقًا جديدة فى المجتمع، فمن منا يكره أن يشاهده الملايين ويستمعوا لرأيه وتحليله؟ ولكن هنا تكمن المشكلة، فالإعلام يضخم الصورة حتى تصبح أكبر من المضمون نفسه، فمشاهدة الملايين لك باستمرار تضخم فى صورتك حتى يعتقد البعض أنك بالفعل على دراية ببواطن الأمور وأنك على علاقة بعلية القوم، وأنك قادر بالضرورة على فهم وتوقع المستقبل، وقد يكون ذلك، وهو غالبا بالفعل، أكبر بكثير من قدراتك الحقيقة، وأنت هنا إما أن تساير الصورة فتصدق نفسك حتى تسقط حتما يوما ما لأن الفقاعة مهما طارت فى الهواء فستنفجر فى لحظة ما بسرعة وبدون ثمن يذكر، وإما أن أن تقاوم فيغضب عليك صناع الإعلام، وتختفى من المشهد تاركا المساحة لغيرك وبعض هذا الغير قد لا يكون مؤهلا أصلا ولا يحمل من صفات التحليل السياسى سوى اسمه!

•••

إن مستقبل هذا الوطن أصبح رهنا بوجود صناعة أكاديمية حقيقة قادرة على تقديم أبحاث جادة وإمبريقية مرتبطة بالواقع يقودها خبراء بحق، لاحظ أن الخبير السياسى هو شخص مارس السياسة علما وفنا لعشرات السنوات وليس مجرد باحث سياسى حصل على الدرجة العلمية حتى لو كانت الدال منذ أشهر أو حتى سنوات عدة، ويقودها كذلك باحثون جادون ومؤمنون ماديا واجتماعيا حتى يبتعدوا عن عوامل التأثير والجذب الخارجية، وإلى أن نملك هذه الصناعة فدعنى أصارحك عزيزى القارئ، إن ما يقدمه باحثو السياسة، ومنهم كاتب هذه السطور، ومع استثناءات قليلة للغاية من بعض أساتذتنا الذين أوتوا الخبرة والعلم عن حق، ماهى إلا قراءة متواضعة قد يستخدمون فيه خبراتهم أو مهاراتهم أو حتى حدسهم العام دون أن يقدموا لك بالضرورة علما.

أحمد عبدربه مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.