أرسل إليّ الدكتور جمال عبد السلام الأمين العام لنقابة الأطباء رسالة رقيقة يطلب مني فيها أن أبلغ صديقي وشريكي الفنان عمرو سليم عتابه على كاريكاتير رسمه الخميس الماضي وردت به عبارة «أينما تكونوا يدرككم النحس» وهو ما اعتبره تحريفا لا يليق لآية قرآنية، رسالة الدكتور جمال كانت ألطف كثيرا من تعليقات غاضبة على صفحة الشروق بموقع الفيس بوك قامت بتكفير عمرو وانهالت عليه بأقذع الشتائم بل وتوعدت بإلحاق الأذى به، وهو ما يجعلني أتضامن مع عمرو وأعيد نشر هذا المقال الذي كتبته قبل سنوات عن ما يعرف بالتضمين والإقتباس، لعله يصادف عقولا تفضل التفكير على التكفير.
« مثلما يستسهل بعض القراء وصف بعض الكتاب بالكفر، يستسهل بعض الكتاب وصف بعض القراء بالتطرف.عن نفسي أتلقى أحيانا رسائل من بعض القراء تتهمني بالكفر وأحيانا تكون متسامحة فتتهمني بالفسوق والعصيان، ودائما لاأميل للتعامل مع هذه الرسائل بحدة، ليس لأني عاقل يَخُرّ حصافة، بل لأنني خلاص تعودت.
مبدئيا، جميل أن يكون لدى الإنسان غيرة على دينه تدفعه للذود عنه، لكن الأجمل أن تدفعه هذه الغيرة للتفقه في دينه فلايرمي الناس بما ليس فيهم. قبل أيام بعث لي قارئ رسالة وصفها بأنها غيورة على الدين، ومع ذلك حفلت بألفاظ تخجل عاهرة مرخصة في الأربعينات من ترديدها، الرسالة عندي لكي لايقال أنني أتهم أحدا بالباطل، وهي لم تغضبني لأنني تعلمت زمان أن الشتيمة تلف تلف وترجع لكاتبها، فضلت أن أفترض أن صاحبنا ممتلئ بالحب لدينه، والحب أحيانا يعمي الإنسان، فينسيه أنه مأمور ألا يجادل إلا بالتي هي أحسن. للأمانة هذا القارئ ليس سوى إستثناء من بين عشرات عاتبوني على بعض ماكتبت حاملين غيرة على دينهم لم تمنعهم من الحوار مع كاتب يحبون أن يقرأوا له لا أن يقرأوا عليه، ولهؤلاء بالذات أكتب.
يعلم القارئ الكريم إن كان متابعا لي أنني تعودت منذ خشونة أضافري على إستخدام تعبيرات قرآنية في نسيج ماأكتبه، وهو أمر مرجعه أن أهلي أحسنوا إلي فحفّضوني ثلثي القرآن الكريم وأنا في التاسعة من عمري، وأسأت إليهم وإلى نفسي فنسيته بمجرد بلوغي سن البلوغ، لكن مابقي لي منه ذلك التأثر في الكتابة بالتعبيرات القرآنية، وهو مايرفضه بعض القراء بشدة، والبعض الآخر بعشم، مع أنني لست بدعا بين الكُتّاب في إستخدام ذلك الأسلوب البلاغي الذي يعرفه كل من درس اللغة العربية بإسم «التضمين»، والذي يعرفه مفسر القرآن الإمام السيوطي بأنه «تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه بأن لايقال فيه قال الله تعالى».
لاأريد أن أسهب في شرح أسلوب التضمين من عندياتي، فأتهم بأنني أهرف بما لاأعرف، فقط أكتفي بأن أحيل القارئ كريما كان أم لئيما إلى الكتاب الحجة في هذه القضية، أعني كتاب «الإقتباس من القرآن الكريم» للإمام الثعالبي وهو من هو في علوم القرآن واللغة والبلاغة والتاريخ، الكتاب أصدرته الهيئة العامة لقصور الثقافة مشكورة في جزءين عن سلسلة الذخائر التي أكون جاحدا لو لم أشكر المشرف عليها الدكتور عبد الحكيم راضي وأقبل رأسه ويديه إن سنحت الفرصة، ممتنا لأفضاله الجمة على محبي التراث ومن بينها تلك المقدمة البديعة التي كتبها لكتاب الثعالبي.
إستعراض الكتاب بجزئيه أمر فوق طاقة هذا العمود، فضلا عن أنه لو حدث لما أغناك عن متعة قراءة الكتاب الذي ستجد فيه كل مايشفي غليلك في أمر الإقتباس والتضمين، يكفي فقط أن أقول أن الثعالبي على كثرة ما استعرضه من نماذج الإقتباس نثرا وشعرا، لم يُحَرِّم أيا منها بل كَرّههُ فقط في موضعين: أن يفرط الشاعر أو الكاتب في حد الإقتباس حتى ينظر في قصة قرآنية فيستفرغها كلها في كتابته كما فعل أبو تمام في إستعطاف غلام بقوله «بألم نشرح ندعو الله أن يشرح صدرك»، أو أن يتم ذكر الخلق بما يستأثر به الله تعالى من الصفات كأن يقال في وصف خليفة أنه نعم المولى ونعم النصير، وحاشا لله أن أكون وقعت في هذا أو ذاك.
قلت لقارئة كريمة كل ذلك تليفونيا فقالت لي على مضض أنها فقط غاضبة من إستخدام أسلوب التضمين في معرض الكتابة الساخرة، وإن كنت تشاركها الإعتراض فاسمح لي أن أحيلكما إلى ماتيسر لكما من كتب النوادر والأمالي التي كتبها أبرز علماء الإسلام، لاأتحدث هنا عن شخصيات عظيمة قد يُختلف عليها كالأصفهاني وإبن عبد ربه والجاحظ والتوحيدي، بل أتحدث عن شخصيات فذة قل من يختلف عليها كالسيوطي وأبو الفرج الجوزي والثعالبي والقالي والإبشيهي وابن حجر، أقسم أنني لو أعدت نشر بعضا من نوادرهم عن الأئمة والمقرئين والحفاظ والمؤذنين، والتي تستقطع تعبيرات قرآنية وتضعها في قلب نوادر ونكات في غاية الجرأة، للعنني الذين استكتبونني هنا لأنني كنت سببا في محاصرة صحيفتهم بالمظاهرات واستمطارها باللعنات، فقد صرنا للأسف في حالة من البؤس الحضاري تجعلنا لانستطيع فقط أن نقتبس شيئا من كتب أهل الجموح في تاريخ الحضارة الإسلامية، بل أصبحنا حتى لانستطيع أن نقتبس بعض ماكتبه كبار الأئمة والحفاظ الثقات.
هذا وإن تعجب فعجبٌ أن الكثيرين من ابناء جلدتنا يصرون على أن حل أمتنا الوحيد هو الرجوع إلى الماضي، ولو أنك أخذتهم إلى الماضي في عصور رحابته الفكرية وسماحته العقلية وقبوله للإختلاف لطلبوا منك أن تدعهم في حاضرهم يعمهون».
belalfadl@hotmail.com