قد تبدو الولايات المتحدة بالنسبة للشخص العادى من غير ذوى الخبرة كقوة فاعلة مهمة فى تحديد شكل ومستقبل الحكم فى مصر. وقد ساعدت عدة مشاهد سياسية منذ بدء ثورة مصر 25 يناير على دعم هذه التصورات.
فقد جاءت كلمات الرئيس الأمريكى باراك أوباما، فى خطابه المهم عن ثورات العرب يوم 19 مايو الماضى، لتؤكد أن أمام بلاده بابا مفتوحا من أجل بسط نفوذ أمريكى أوسع فى الشرق الأوسط فى صور جديدة، قائلا «إن هناك الآن فرصة تاريخية لدعم المصالح الأمريكية». وقال الرئيس أوباما بعد ذلك «يجب علينا أيضا مواصلة جهودنا لتوسيع نطاق مشاركتنا خارج دوائر النخب، بحيث نصل إلى الناس الذين سيشكلون المستقبل» معبرا بذلك عن رغبة واضحة فى فرض نفوذ أمريكى على اختيارات شعوب المنطقة.
ومع بدء الثورة يوم 25 يناير، سمح مشهد وجود وفد عسكرى رفيع المستوى على رأسه الفريق سامى عنان، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، فى زيارة لواشنطن بإطلاق حملة تخمينات حول هوية حاكم مصر القادم، وادعت بعض الآراء وجود صفقة أو ترتيبات أمريكية تحدد مسار الأحداث فى مصر. إلا أن التطورات خلال الأيام والأسابيع التالية أثبتت خطأ تلك التحليلات.
واليوم يجىء مشروع القرار المعروض أمام مجلس الشيوخ الأمريكى، الذى تسيطر عليه أغلبية من حزب الرئيس أوباما الديمقراطى، وينادى بفرض مجموعة من الشروط على مصر حتى تستمر الإدارة الأمريكية فى تقديم المساعدات العسكرية التى تقدر بنحو 1.3 مليار دولار سنويا، ليجدد الجدل حول دور واشنطن ورغبتها فى التأثير فى مستقبل الحكم فى مصر.
لا يجب أن يفهم من الرغبة الأمريكية فى التأثير فى مستقبل الحكم فى مصر، وما تزخر به واشنطن من مؤتمرات وندوات ودراسات لسيناريوهات انتقال السلطة، والتساؤل حول هوية ساكن القصر الجمهورى القادم، أنها تعكس قوة حقيقية تتمتع بها الولايات المتحدة فيما يتعلق بمستقبل حكم مصر.
من الطبيعى أن تعج واشنطن بالنقاشات حول مستقبل المرحلة الانتقالية التى تمر بها مصر. وليس سرا أن العلاقات المصرية الأمريكية كانت ومازالت تعد علاقات خاصة مهمة جدا منذ عودتها عقب حرب أكتوبر المجيدة. وبحكم هذه الأهمية لا يمكن لواشنطن أن تخاطر باختزالها فى شخص بعينه أو بالرهان على فريق أو شخص ضد آخر.
العلاقات المصرية الأمريكية تحكمها مصالح وحسابات وتوازنات عديدة. لذا فالبراجماتية هى التى تحكم اهتمام واشنطن بمستقبل الحكم فى مصر. وكثيرا ما أتوجه لمسئولين ودبلوماسيين أمريكيين بالسؤال حول تصورهم لمستقبل الحكم فى مصر، وتقديراتهم الشخصية إن وجدت، وتخلص المناقشات إلى تأكيد أن واشنطن لم ولن تتدخل فى اختيار الرئيس القادم لمصر، ولن تساعد أو تشارك فى ترجيح كفة اسم مرشح أو فريق على آخر. والحقيقة هى أنها لا تستطيع ذلك إن أرادت!
الحقيقة هى أن مصر هى أكبر دولة من حيث السكان فى الشرق الأوسط بملايينها الذين تعدوا الثمانين، وما لديها من أكبر جيش بالمنطقة وثانى أكبر اقتصاد، إضافة إلى دورها الثقافى الرائد. فمصر هى مصدر الفكر السياسى العربى المعاصر، كما أنها مصدر الفكر الراديكالى المتطرف. وبالتالى فإن الاهتمام بها فى الدوائر الأمريكية المختلفة مبرر، ومتابعة ما يحدث فيها، وفى مستقبلها هو شىء مهم لواشنطن وللعالم كله. أما توجيه جماهيرها وتشكيل إرادتهم من واشنطن أو من أى عاصمة أخرى فغير ممكن.
ويعكس سوء تقدير النخبة المصرية للقوة الأمريكية، والمبالغة بشأنها، ثلاث نقاط مهمة: الأولى عدم معرفة بطبيعة عملية صنع السياسة الأمريكية، والثانية مبالغة كبيرة، وغير حقيقية حول ما يمكن للولايات المتحدة القيام به والتأثير عليه فى السياسات الداخلية المصرية، والثالثة، وأكثرها خطورة، هى عدم ثقة فى قدرة الشعب المصرى على اختيار حكامه الجدد بحرية واستقلالية.
استقراء تجربة السنوات القليلة الماضية يدل على حدود قوة أمريكا فى فرض أنظمة حكم على شعوب الدول الأخرى، أو حتى التأثير الكبير على هذه الاختيارات. وبالرغم من التدخل العسكرى المباشر وتسخير مئات الألوف من القوات على أرض أفغانستان والعراق لإرساء نظم حكم جديدة، إلا أن الاختيار الشعبى كان صاحب الكلمة الأخيرة فى اختيار الحكام الجدد.
وتقول دراسة صدرت الأسبوع الماضى عن مركز خدمة أبحاث الكونجرس إن مصر تلقت حتى الآن 71.6 مليار دولار من المساعدات الأمريكية، منها 1.3 مليار دولار سنويا للمساعدات العسكرية منذ عام 1987 وحتى الآن. إلا أن هذا لا يعنى انعكاسا لقوة أمريكا فى مصر، فلم يعد للمساعدات الأمريكية تأثير ملموس فى الشأن المصرى.
عندما بدأ تدفق المساعدات الأمريكية لمصر عام 1981، كانت المنحة العسكرية السنوية تساوى أكثر من 5% من الناتج المحلى الإجمالى لمصر. ومع نمو الناتج القومى عبر السنين فقد أصبحت تلك المنحة أقل من ربع بالمائة 0.25% بحلول عام 2010، وهكذا أصبح مبلغ المساعدات ضئيلا وفقد قيمته النسبية.
مغالاة الشعب المصرى فى تصوره لمدى القوة والنفوذ الأمريكى قد يكون مفهوما، إلا أن امتداد تلك المغالاة إلى مراكز القوة فى مصر، وعدم الفهم الحقيقى لحدود قوة البيت الأبيض والكونجرس والإعلام الأمريكى هو ما يدعو للقلق.
لقد نجحت ثورة مصر فى فرض معادلة جديدة أصبحت فيها جموع الشعب المصرى أهم لاعب فى الحياة السياسية الجديدة خلال هذه المرحلة الانتقالية التاريخية. مستقبل حكم مصر ستقرره حوارى وشوارع مصر، وليس قاعات ودهاليز واشنطن.
ويطرح هذا كله عدة تساؤلات حول ضرورة البحث عن طريقة جديدة لإدارة القاهرة لعلاقاتها مع واشنطن؟ وهل تقدر مصر على تحييد أو على الأقل تقليل البعد الإسرائيلى فى علاقاتها تلك؟ ولماذا لا يبادر حكام مصر الجدد برفض قبول المساعدات، الاقتصادية منها والعسكرية؟ أسئلة مهمة تطرح نفسها فى توقيت حرج من تاريخ مصر