بمجرد مطالعة ذلك العنوان الأخاذ، قد ينصرف إدراك رهط من قرائنا الأفاضل ذوى الاهتمامات الأدبية، تلقاء واحدة من أشهر الروايات الفلسفية للأديب المصرى العالمى، وصاحب نوبل فى الآداب، نجيب محفوظ، والتى صدرت طبعتها الأولى عام 1979 ضمن كتاب يحمل ذات العنوان، ويطوى بين دفتيه مسرحيتين واثنتى عشرة قصة، قبل أن تتحول عام 1981، إلى دراما سينمائية ملحمية متميزة، أخرجها للشاشة الفضية، بالعنوان نفسه، أشرف فهمى، وشارك فى تجسيدها طائفة من نجوم زمن الفن الجميل، كفريد شوقى، وعادل أدهم، وتوفيق الدقن، ونور الشريف، ونبيلة عبيد، وكريمة مختار، وغيرهم من نجمات ونجوم الظل.
لكنى ما قصدت بذلك العنوان الموحى، سوى تسليط الضوء على ما يمكن تسميته مجازا بـ«عظة الجحيم»، فى إشارة إلى تلك الخُطبة الصادمة، أو ذلك البيان المفجع، الذى سيلقيه الشيطان الرجيم على مسامع أتباعه يوم القيامة، معتليا منبرا ناريا فى قعر جهنم. فبمجرد طى صفحة يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، برفع الميزان، وانقضاء محاسبة الله للخلائق قاطبة، سيقدُم إبليس اللعين أولياءه إلى غياهب النيران، بينما تلاحقه لعناتهم أن أوردهم هكذا مآل. غير أنه سرعان ما يجادل عن نفسه بعظة شيطانية، لا تخلو من اعتراف بجرم العصيان، وتضليل البشر فى الحياة الدنيا لحرفهم عن صراط ربهم المستقيم، وإن انطوت على إبراء لذمته، وتنكره لمريديه، ممن لا يتورع عن تحميلهم مسئولية ما حاق بهم يوم الدين، جراء إذعانهم له واقتفائهم لأثره.
ففى محكم التنزيل، يقول المولى، تبارك وتعالى، فى الآية الثانية والعشرين من سورة إبراهيم: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِى عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلَا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». وفى مؤلفه العمدة المعنون «الجامع لأحكام القرآن»، يفسر الإمام القرطبى قوله تعالى: «لما قضى الأمر»، بإتمام الحكم العدل محاسبة خلقه كافة، وانتهاء المآل بأهل الجنة فى الجنة وأهل النار فى النار. ويشير قوله تعالى: «إن الله وعدكم وعد الحق»، إلى حقيقة موعود الله من موت وبعث وحساب ومكافأة للمثيبين وعقاب للمذنبين. بينما يعنى قوله تعالى: «ووعدتكم فأخلفتكم»، أوهمتكم أن لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار فكذبتكم.
أما قوله تعالى: «وما كان لى عليكم من سلطان»، أى من حجة أو بيان على قلوبكم وموضع إيمانكم; والمعنى، ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم فى الدنيا، لكنى دعوتكم فاستجبتم لى; وهذا على أنه خطب العاصى المؤمن والكافر الجاحد; وفيه نظر; لقوله: «لما قضى الأمر» كونه يدل على أنه خطب الكفار دون العاصين الموحدين. وقوله: «إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى»، أى أغويتكم فاتبعتمونى. وقيل: لم أقهركم على تنفيذ ما دعوتكم إليه. وهنا استثناء منقطع; أى دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لى باختياركم. فلا تلومونى ولوموا أنفسكم إذا جئتمونى من غير حجة. «ما أنا بمصرخكم»، أى بمغيثكم أو منجيكم، «وما أنتم بمصرخى» أى بمغيثى أو منقذى. وفى قوله: «إِنِّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ»، يقول ابن جريج: إنى كفرت اليوم بما كنتم تدعونه فى الدنيا من الشرك بالله تعالى. وقال قتادة: إنى عصيت الله. أما سفيان الثورى، فقال: كفرت بطاعتكم إياى فى الدنيا.
عجبا لأمر البشر، لا يفتأون يوالون عدوهم اللدود، وقد أخبرهم الحق، تقدست أسماؤه، فى كتبه السماوية كافة، وعبر أنبيائه ورسله أجمعين، بتفاصيل أهوال ووقائع يوم الفزع الأكبر. كما سبق وحذرهم من كيد الشيطان لهم ومكره بهم، منذ حقد على أبيهم آدم، وتفانى فى إغوائه حتى عصى ربه وخرج من جنته. ولطالما تعهد إبليس اللعين للمولى، تبارك وتعالى، بمواصلة ذات الدرب مع ذرية آدم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لحرمانها من مظلة الهداية والرحمة الربانية. ففى الآية 27 من سورة الأعراف، يقول تعالى:«يَا بَنِى آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ». وفى الآية السادسة من سورة «فاطر»، يقول سبحانه: «إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير». وفى الآيات 168، و208 من سورة البقرة، و142 من سورة الأنعام، يقول عز من قائل: «ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين».
وفى مواضع أخرى بكتابه العزيز، يؤكد، عز وجل، على استدراج الشيطان للإنسان بقصد إفساده وإضلاله وإبعاده عن رحمة ربه، ثم يتخلى عنه ويتبرأ من فعاله. حيث يقول تعالى فى الآية 120 من سورة النساء: «يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا». وفى الآية التاسعة والعشرين من سورة الفرقان: «وكان الشيطان للإنسان خذولا». وفى الآية السادسة عشرة من سورة الحشر: «كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك إنى أخاف الله رب العالمين». ورغم أن الآية الأخيرة تصب فى ذات المجرى الذى تمضى فيه سابقاتها، إلا أن أئمة ومفسرين بارزين من أمثال الطبرى وابن كثير، أرجعوا مناسبة نزولها إلى ما جاء فى رواية الصحابى الجليل عبدالله بن مسعود، حول امرأة كانت ترعى الغنم، وكانت تأوى بالليل إلى صومعة راهب. فما إن فجر بها حتى حملت منه، ثم وسوس له الشيطان بقتلها ودفنها، فاستجاب له وفعل. فذهب الشيطان إلى إخوتها الأربعة فى المنام، وأخبرهم بما كان من الراهب، وأطلعهم على المكان الذى دفن فيه جثمان أختهم. فبعدما تحققوا من الأمر استجاروا بملكهم على ذلك الراهب، فأمر بقتله. لكن الشيطان لقيه قبل تنفيذ الأمر، ووعده بأن ينجيه مما هو سائر إليه، شريطة أن يسجد له. فإذا بالراهب يقع فى الفخ مجددا ويسجد للشيطان، الذى ما لبث أن تبرأ منه وتخلى عنه،بعدما ورطه فى عدد من الخطايا والموبقات، تاركا إياه يساق إلى حتفه الدنيوى؛ حيث العذاب الأدنى، حتى يحين موعد عذاب أخروى أكبر وأشد وأبقى، يوم الحشر الأعظم.
بخداعه وكيده ويمينه الكاذب، تسنى للشيطان إغواء أبينا آدم، حتى أنساه عهد ربه إليه، وأخرجه وزوجه من الجنة ليشقى، حسبما أورد ربنا فى الآية 117 من سورة طه بقوله: «فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ». فلقد سبق للخالق أن حذر آدم من غواية الشيطان وشره، حتى أنه سبحانه قد أخبره بالعقوبة التى سينالها حالة استجابته للوسواس الخناس، والمتمثلة فى الخروج من الجنة والعيش فى الأرض، وتدبره كما ذريته من بعده أمر الحياة فيها، وفقا لتفسير الإمام الطبرى، ورغم ذلك، وقع آدم فى الخطأ، واستجاب لوساوس الشيطان. واليوم، لا يأل ذلك المطرود من رحمة ربه، جهدا لاستكمال مهمته فى إضلال البشر، الذين لم يعتبروا مما جرى لأبيهم آدم فيما مضى. فرغم تيقنهم من عداوة الشيطان لهم، وتفانيه فى الإضرار بهم حتى يوردهم موارد التهلكة، لا يزالون يصغون لوساوسه، ويذعنون لضلالاته عبر اتباع خطواته، والتفريط فى جنب مولاهم الملك العلام، المستحق، دون سواه، للعبادة والطاعة.
لعله إذا الأمل البشرى المعهود فى امتداد العمر، بما يتيح التوبة عن الذنوب والمعاصى قبل انقضاء الأجل. وربما هو الطمع الإنسانى فى سعة رحمة الله وعظيم مغفرته وصفحه. أو لعله التشبث بمتاع الدنيا القليل الزائل؛ حيث جبلت النفس البشرية على حب الحياة العاجلة، والنهم لشهواتها وملذاتها الآنية العارضة، مع استبطاء توسل النعيم المقيم فى الدار الآجلة، التى هى الحياة الحقيقية والأبدية؛ حيث الخلود الإنسانى والسعادة اللانهائية. وذلك مصداقا لقول الحق، تجلت حكمته، فى الآية السابعة عشرة من سورة الأعلى: «بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى»، وكذا فى الآية الرابعة والستين من سورة العنكبوت: «وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون». فسبحان الخلاق العليم.