يعيش العالم حاليا مرحلة من العنف لا أعتقد أننا شهدنا مثلها منذ سنوات طويلة من ناحية امتدادها الجغرافى وتنوعها ودوافعها وأسبابها التى قد تختلف ولكنها تلتقى عند نقطة تجمع بين نوازع الشر الذى يبدو أحيانا سافرا بغير حياء، وأحيانا متخفيا وراء دعاوٍ ترتدى مسوح البراءة وتزعم أنها تستند إلى مبادئ مع أنها يلونها التزوير. وكل هذا يثير الفزع لأنه فى شروره المحتملة يكاد يتجاوز الكثير مما عانى منه العالم فى الماضى، ولأن هذه الشرور أصبحت تمتلك من آليات التدمير المادى والنفسى ما لم تكن تعرفه الإنسانية، فالموضوع لم يعد مجرد أسلحة تدمر وتقتل، بل يتعلق بنتيجة العولمة بالقدرة على تشويه الفكر قبل الجسد وتخريب الآمال التى تصورت البشرية أنها اقتربت من شواطئها فإذا بها أسيرة فى دائرة تلتقى بدايتها مع نهايتها بدلا من أن يكون هناك خط مستقيم متصاعد نحو آفاق التقدم الموعود والمأمول. وكأن الإنسان يعود إلى عهود الظلام التى كان قد ظن أنه تركها وراءه.
ففى فلسطين يستمر العنف الإسرائيلى المادى فى تدمير المبانى والعنف الأكثر شراسة فى محاولة تدمير نفسية الفلسطينيين بتعريضهم لحصار ليس فقط ماديا بل يقترن بجهود لمحو هويتهم إلى درجة إلغاء الأسماء العربية التاريخية واستبدال أسماء عبرية بها لم يكن بعضها موجودا فى أية مرحلة من مراحل التاريخ الحقيقى أو المزور. يضاف إلى ذلك أشكال أخرى من العنف العدوانى الذى يرفضه حتى أخلص أصدقاء إسرائيل ولو أنهم لا يبدون أى استعداد حقيقى لاتخاذ الإجراءات الفعالة لوضع حد لتلك التصرفات، بل إن بعضهم يشجعونها على أن توسع نطاق عدوانها كما رأينا فى تصريحات نائب الرئيس الأمريكى التى أعطى فيها الحق لإسرائيل لكى تضرب إيران، وهى تصريحات تم نفيها بضعف يدل على أن هناك داخل الإدارة الأمريكية من لايزالون يحنون إلى زمن التفاهم الأمريكى الإسرائيلى الذى بدا أن الرئيس أوباما راغب فى أن يحيد عنه ولو بعض الشىء؛ انحيازا لمبادئ العدالة التى عانى فى حياته من انعدامها، وفى العراق الذى دمره الاحتلال الأمريكى ماديا ومعنويا تحت دعوى إرساء الديمقراطية، نراه أصبح مسرحا لعمليات عنف متزايدة نتيجة لجرثومة زرعها الغزاة عمقت خلافات كانت كامنة، وشجعت نزاعات طائفية وانفضالية تتساقط ضحاياها بأعداد متزايدة. وهناك السودان والصومال وإيران واليمن ونيجيريا وأفغانستان وباكستان والصين وحتى بعض الدول الأوروبية. وكلها ظواهر تستحق محاولة التعمق فى تفسير أسبابها إذ إنه رغم اختلاف الظروف والملابسات فليس من شك فى أن هناك ميكروبا قد يكون أكثر انتشارا من إنفلونزا الخنازير قد يحتاج إلى إعادة النظر جذريا فى بعض الأمور، ومنها النظام الدولى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا والذى تنعكس آثاره ليس فقط على العلاقات بين الدول بل على العلاقات والأوضاع داخل كل دولة.
وعلى أية حال فإن حديثى اليوم يريد أن يركز على مظاهر العنف فى المجتمع المصرى الذى كان معروفا بأنه مجتمع مسالم إلى حد كبير، فإذا به يتعرض لمظاهر جديدة من العنف سواء شفهيا بانعدام الحوار الحقيقى والعقلانى الذى حلت محله نوبات من الصوت العالى المعبأ بالشتائم والاتهامات بالخيانة والعمالة وغير ذلك، أو ماديا بازدياد معدلات الجريمة ونوعيتها وأساليب تنفيذها، حتى صرنا نسمع عن جرائم فى داخل الأسرة الواحدة مما لم يكن لنا به عهد. وقد قابل ذلك تشدد فى توقيع العقوبات التى يتصور البعض أنها رادعة مع أن التجربة أثبتت أن تأثيرها الرادع لم يتحقق.
ولعلنا نلاحظ أن بعض الجرائم التى رأى المشرع أن يجعل عقوبتها الإعدام ــ كجرائم المخدرات ــ لم تختف بل لعلها بالعكس زادت وزادت معها أرباح المتاجرين فيها بحجة موازنة المخاطرة. وقد ادهشنى إحصاء سمعت به يقول إنه فى شهر يونيو الماضى أصدرت المحاكم المصرية 75 حكما بالإعدام، بينما عدد ما صدر منا خلال العام الماضى كله بلغ 87 حكما. وللأسف الشديد فإن تزايد انتشار مظاهر التدين لم يؤد إلى تحسن التعامل بين الناس فكأنهم يفصلون بين الطقوس وبين ما هو مقصود منها من التذكير بمحاسن الأخلاق وبأسلوب التعامل بين البشر على أساس الاحترام المتبادل والتكافل.
ولعل انعدام الحوار هو أيضا ما يؤدى إلى أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة تترجم إلى تزايد الاضرابات والمسيرات والوقفات الاحتجاجية التى يهمل أمرها أياما لأسباب غير مبررة ثم تنتهى بالاستجابة إلى أغلب المطالب التى لو كانت قد تعرضت للحوار الجاد منذ البداية لجنبت الجميع الكثير من الآثار السلبية معنويا واقتصاديا وسياسيا.
وقد سبق لى أن كتبت عن أهمية الحوار وأسلوبه، وأعتقد أننا نحتاج إلى ثقافة جديدة فى هذا الشأن تقنع الجميع بضرورته، وبفلسفته، وأسلوبه، وتؤكد أن نتيجة أى حوار جاد لا يكون فيها منتصر أو مهزوم بل تكون كالشرارة التى تضىء ولا تحرق، فيبدو الطريق واضحا نحو ما يحقق مصلحة الوطن والمواطن، بعيدا عن شرور العناد والعراك وتأكيدا لمعانى المواطنة التى تقبل الخلاف والاختلاف وتتجاوزهما إلى ما فيه المصالح المشتركة التى تنعكس فى الوطنية الحقيقية التى تجمع ولا تفرق وتبنى ولا تهدم.