رغم أن السياسة الخارجية لم تكن فى واجهة مطالب وشعارات التغيير التى رفعها الثوار المصريون فى 25 يناير عام 2011، إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينفى أثر الإحساس الشعبى بافتقاد مصر لمكانتها الإقليمية والدولية على مدار العقدين الأخيرين وانعكاس هذا الإحساس فى تشكيل حالة الرفض والسخط والاحتجاج التى حركت الشارع المصرى ودفعته إلى مطلب التغيير الشامل لنظام الحكم وسياساته. وقد يرى آخرون من باب التخريج الاجتهادى أن شعارات «الحرية» و«الكرامة» التى رفعها الثوار فى ذلك الوقت لم تكن تعنى فقط حرية المواطن وكرامته فى مواجهة السلطة الحاكمة داخل البلاد وإنما تعنى أيضا انعتاق الوطن كله من إسار الهيمنة الأجنبية وتأمين استقلالية القرار الوطنى وهجر أسلوب مد اليد لعطايا الآخرين، أو الاقتراض بشروط مجحفة، كما تعنى أيضا الحفاظ على حقوق وكرامة المواطن المصرى خارج البلاد مهما كانت الظروف.
أما المتخصصون فى شئون السياسة الخارجية فقد كان لديهم فوق تلك الأسباب الجماهيرية اسباب وتصورات أخرى تجعلهم ينتظرون تطويرا جوهريا ليس فقط فى منطلقات وأهداف السياسة الخارجية المصرية وإنما أيضا فى آليات صناعة هذه السياسة وطرق أداء الأجهزة القائمة على تخطيطها وتنفيذها ومتابعتها. ويمكن إستخلاص أهم عناصر التطوير المطلوب على النحو التالى :-
١ ــ تكريس المفهوم الوطنى والديمقراطى فى رسم وتنفيذ السياسة الخارجية وهو ما يعنى أولا الربط الدقيق والمحكم بين السياسة الخارجية والظروف والاحتياجات المجتمعية الداخلية أى التركيز على دبلوماسية التنمية بأبعادها المختلفة، ومراعاة نبض الشارع واتجاهات الرأى العام وأولوياته وعدم إهدار الطاقات والموارد الوطنية فى نشاطات خارجية أو بروتوكولية ذات مردود متواضع. وهو يعنى ثانيا معالجة التناقض القائم بين مفهوم (السيادة الوطنية) (حقائق العولمة) على أسس واقعية جديدة تراعى التوازن بين (مصالح الأمن القومى) (والمعايير العالمية لحقوق الإنسان) (والحتميات الاقتصادية والتكنولوجية). كما يعنى المفهوم الديمقراطى فى السياسة الخارجية ثالثا مشاركة مختلف القوى السياسية الوطنية فى صياغة خطوط وأولويات تلك السياسة وفى مراقبة تنفيذها. ثم أنه يعنى فى المقام الرابع ترفيع مستوى الاهتمام بحقوق المواطنين المقيمين بالخارج وتأمين مصالحهم.
٢ ــ إعادة التوازن إلى علاقاتنا الخارجية وهو ما يعنى تنويع محاور التعاون فى اتجاهات جغرافية وسياسية متعددة وعدم الاكتفاء بشراكة استرتيجية واحدة مع قطب دولى واحد. ورغم أهمية الحفاظ على علاقاتنا مع الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبى بمستوياتها الراهنة ومع تخليصها من جوانب المشروطية السياسية إلا أن الأمر قد يحتاج إلى عقد شراكات مماثلة مع أطراف دولية أخرى لاتاحة مساحة اكبر من حرية التحرك والمناورة فى انفاذ مصالحنا الوطنية. (الصين واليابان ومجموعة دول البريكس مثلا).
٣ ــ أما الدوائر العربية والإفريقية والاسلامية فسوف تحتاج استعادة مكانتنا المفقودة فيها إلى جهود مضاعفة والى مبادرات ومسالك اقتراب جديدة وجريئة. ويزيد من صعوبة المهمة فى الدائرة العربية أن الإشكاليات المصرية وغير المفهومة التى كانت تحيط بأجواء العلاقات المصريع العربية وبأجواء العمل العربى المشترك عموما قد اضيف اليها منذ بداية «الربيع العربى» فى العام الماضى تعقيدات أخرى زادت من مشاعر التوجس والحذر ومن فرص الإنقسام بين الدول العربيه. أما القارة الأفريقية فقد شهدت خلال الفترة الماضية التى غاب فيها الاهتمام المصرى عن تطورات نوعية سواء فى بناء واستكمال النظم الديمقراطية والتحالفات الدولية أو فى تطور النظم الاتحادية والإقليمية والقارية ما يجعل مهمة استعادة دورنا المؤثر فيها لا يقل صعوبة.
ومع ذلك فقد تستطيع مصر بقدر من المثابرة والابتكار أن تعود إلى هذه الدوائر من خلال عدة مسالك وطروحات ذات أبعاد وحدويه وديمقراطيه وإنسانيه، ومن بين ذلك مثلا:
● بحث إمكانية إعادة وضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية لمدة محددة يتفق عليها عربيا ودوليا بهدف إنهاء الحصار الاقتصادى على هذا القطاع، وتأهيل مؤسساته وكوادره الفنية والسياسية والأمنية لمرحلة إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة.
● العمل على تعديل ميثاق الجامعة العربية على نحو يضيف إلى العمل العربى المشترك أبعاد ديمقراطية وإنسانية وذلك من خلال اضافة ملاحق ــ يكون الانضمام إليها اختياريا ــ ويتعلق الملحق الأول بتقنين حق وواجب التدخل الجماعى فى حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية وإغاثة المدنيين المهددين وتنظيم وسائل هذا التدخل بما فى ذلك إنشاء (قوة عربية لحفظ السلام) (وهيئة عربية لتنسيق أعمال الإغاثة الإنسانية). والملحق الثانى تنشأ بمقتضاه آلية عربية للتحقق والانتصاف فى حالات انتهاك حقوق الإنسان بحيث يمكن لأى مواطن عربى التقدم إليها بشكواه، أما الملحق الثالث فيتعلق بتنظيم مشاركة الجامعة فى متابعة الانتخابات الوطنية التى تجرى فى أى من الدول الأعضاء، بما فى ذلك تقديم مساعدات فنية ولوجستية لتلك الدولة إذا ما رغبت.
● العمل على إنشاء كونسورتيوم عربى لتنمية أبحاث الطاقة النووية واستخداماتها السلمية فى مجالات الطب والزراعة وتحلية المياه بالتعاون مع الوكالات الدولية المتخصصة.
● التفكير فى خطوات اتحادية وكيانات فيدرالية وكونفيدرالية يمكن من خلالها إعادة توزيع الكثافة السكانية وحل مشكلات الأراضى والموارد المائية المتنازع عليها، وتنمية الثروات الأخرى بطرق مشتركه (مع دول حوض النيل مثل) (ودول المثلث الذهبى: مصر وليبا والسودان).
● الدخول فى مشروعات انمائية مشتركة لتحقيق الأمن الغذائى باستثمارات وعمالة وخبرات حكومية وأهلية فى السودان وعدد آخر من الدول الأفريقية والإسلامية (منطقة البحيرات العظمى) (منطقة قزوين).
● إحياء مشروعات ربط مصر مع دول المغرب العربى وأفريقيا بالسكك الحديدية وخطوط الملاحة النهرية والبحرية حتى لو خالف ذلك مقاييس التكلفة والعائد فى الأمد القصير.
● إعادة تخطيط البرامج الثقافية والتعليمية والإعلامية والرياضية على نحو يكفل توظيفها كمصادر للقوة المصرية الناعمة وخاصة فى مجالات التبادل الطلابى والأعمال السينمائية والتليفزيونية وخدمات الاتصال مع تنويع دور الأزهر والكنيسة القبطية لتشمل خدمات إنسانية واجتماعية إلى جانب التعليم الدينى.
4 ــ وعلى قدر أهمية وطموح التطوير المطلوب فى سياساتنا الخارجية بمختلف دوائرها ومستوياتها.. يلزم تحقيق تطوير مماثل فى أجهزة وهياكل صنع هذه السياسات وفى طرق عملها. ويبدأ ذلك التطوير بربط عمل الأجهزة على نحو مؤسسى ومستمر بمراكز الأبحاث العلمية وخاصة المتعلقة باستشراف المستقبل والسيناريوهات البديلة وإدارة الأزمات، كما يلزم تنسيق خطط وعمل تلك الأجهزه من خلال «مجلس أعلى للأمن القومى والسياسه الخارجية» وقد يحتاج الأمر بصفة خاصة إلى مراجعة مساحات وأسباب ونتائج التداخل فى بعض الملفات الخارجية بين بعض مؤسسات الدولة والعمل على تصفية هذا التداخل أو تحجيمه بما يحقق المصالح الوطنية فى المواقع المختلفة.
ومن ناحية أخرى هناك أفكار بشأن تطوير نظم الالتحاق والتخصص والترقى بالجهاز الدبلوماسى وأجهزة التمثيل الخارجى الأخرى التابعة للإعلام والثقاقة والتجارة والقوى العاملة والملحقيات العسكرية على نحو يكفل تلبية الاحتياجات المتجددة والاستفادة من الخبرات الوطنية الجاهزة فى حالات وفترات بعينها، وبما يتيح أيضا للعناصر الشابة شغل بعض المواقع القيادية استثناء من قواعد الأقدمية.
وسوف يكون لأوضاع المصريين بالخارج نصيب من تشريعات جديدة تحدد بوضوح حقوقهم وواجباتهم فى تعاملهم مع سفارات بلادهم وقنصلياتها بالخارج، إلى جانب إعادة تنظيم روابطهم واتحاداتهم بالخارج حتى يكون لهم صوت مسموع ومؤثر فى العلاقة مع الوطن ومع الدول المضيفة لهم.
●●●
وبعد..
فإذا كان ما سبق يمثل بعض تصورات الدبلوماسيين المحترفين لمستقبل السياسة الخارجية المصرية وأدواتها ــ وبعضه لا يخلو من خيال ومسالك مبتكرة ــ إلا أن لا يزال هناك عدد من القضايا والتساؤلات الشائكة التى تثيرها طبيعة وهوية النخبة السياسية الحاكمة حاليا فى مصر والتى تعبر فى قسم كبير منها عن تيار الإسلام السياسى. ومن بين تلك القضايا والتساؤلات مثلا:
إلى أى مدى يمكن أن يستمر تعامل النظام المصرى الجديد بهدوء وعقلانية وسلام مع دولة «بنو إسرائيل» وسياساتها الاستفزازية المتكررة؟
وكيف يمكن لمصر الرسمية تحقيق المساواة والحياد فى التعامل مع الفصائل الفلسطينية المتناحرة التى يلتزم بعضها بالطابع العلمانى المدنى ويلتزم آخرون بالطابع الدينى فى الممارسة السياسية والعمل الجهادى؟
والى اى مدى يتداخل فى فكر النخبة الإسلامية الحاكمة مفهوم «الوطن والوطنية» مع مفهوم «الأممية الإسلامية أو الخلافة الجامعه»؟
وكيف يمكن للنظام الجديد استخدام أدوات الدعوة الدينية فى إطار السياسة الخارجية للبلاد ــ كما ورد فى البرنامج الانتخابى لرئيس الجمهورية ــ دون حدوث انعكاسات سلبية على المصالح المصرية؟
●●●
تساؤلات ومجاهيل عديدة تنتظرنا فى مستقبل السياسة الخارجية المصرية دون إجابات أو تصورات واضحة.