أمام أبواب معظم شركات قطاع الأعمال العام يتربص عدد من السماسرة الذين يزعمون أنهم مستثمرون أو وسطاء لمستثمرين جادين يحملون الخير لمصر. الأزمة تبدأ مع بدء مطالبة هؤلاء بأوراق تثبت جديتهم أو حتى هويتهم وهوية الشركات التى يمثلونها. سرعان ما تنكشف شبكة العلاقات المشبوهة، والتى تمت. إلى بعض قدامى العاملين بالشركات والمتعاملين معها، وتبدأ مرحلة شحن الرأى العام بادعاءات من نوعية تعمد إضاعة فرص الاستثمار، وتدمير أصول الدولة... إلى غير ذلك من اتهامات لها أساسها الذى يفسرها تاريخيا، حينما كانت الدراما المصرية ووسائل الإعلام تعمدان إلى جعل صفة رجل الأعمال مرادفا للمحتال والسارق المحترف، وكان أباطرة هذا القطاع المغبون يقطعون بالفعل قدم كل مستثمر جاد يهدد أوضاعهم ومكاسبهم، يطعنون فيه، يكذبون عليه، يهدرون ثروات البلاد لتحقيق مصالحهم وحدهم ولا عزاء لمال الشعب.
من رحمة الله بمصر أن هذا النوع من المستثمرين الجادين لم ينقرض، وإن كانت تجاربهم التاريخية لا تشجعهم على قرع الأبواب إلا بكثير من التحفُظ والشك المبرر. بالتأكيد أيضا أن المستثمر أو وسيطه ممن يعرفون للوقت قيمته، ويحفظون لدراسات الجدوى أهميتها، لا يتمتعون بالجلد السميك الذى احترف سماسرة نهب المال العام ارتداءه، لذا فقدرتهم على تحمل المضايقات والبيروقراطية قليلة للغاية، ومن ثم فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة فى كل مرة تزاحمها فيها الأسواق.
هذا يضع على أصحاب المسئولية فى قطاعات الاستثمار فى المال العام عبئا مضاعفا. هم من ناحية مسئولون عن جذب والترويج للاستثمار فى أوجه النشاط المختلفة التى يديرونها، بعناية أكبر وجهد مركب لمحو صورة سيئة رسمتها ممارسات الأولين. وهم من ناحية أخرى مكلفون بالفرز المستمر للطامعين الذين طالما تربصوا بالمال العام ظنا منهم أنه غنيمة مستباحة ونهب لا صاحب له.
هؤلاء المتربصون لم يجدوا فرصة للانقضاض على المال العام أفضل من الزحف فى غبار هرولة حفنة من الموظفين غير المتمرسين ولا الدارسين ولا المحتكين دهورا بالأسواق، تحت ألوية الترحيب بالمستثمر الخاص وركوبا لموجتها، وإن كان ذلك المستثمر المزعوم يحمل فى يده حقيبة فارغة، يريد أن يملأها سريعا من بقايا الخير ثم يولى مدبرا، فلا هو استثمر ولا هو ترك المال يثمر.
***
على الجانب الآخر من الطريق الشاق لإصلاح هذا القطاع المأزوم، تقف مجموعة من الدببة التى لا تكاد تتوقف عن إثارة الضجيج تشدقا بادعاءات صون ميراث الحقبة الاشتراكية، وحماية مصالح العمال، والتصدى لأوهام مؤامرات الدولة ضدهم! الدببة تقتل أصحابها إذ تحاول حمايتهم من أذى الذباب، وكذلك يفعلون. مجموعة الدببة لا تتحرى الدقة فيما تنقل من ترهات. يتلقفون كل ما يلقيه سماسرة المال العام من سقط متاع، ينسجون عليه الروايات والأحاجى ثم يلقونه فى قارعة طريق الإصلاح فيتوقف كل شىء، ويتراجع أصحاب الضمائر الحية، والسمعة الطيبة، ينزهون أنفسهم عن جو المؤامرات وطعن الجاهلين، ينسحبون فى هدوء وفى جعبتهم أدواتهم التى تطوعوا بجانب منها لتحقيق حلم تطوير وتنمية أصول وصناعات مازالت تنبض بالفرص. تلك هى مأساتنا التى وضعتنا فى دائرة مفرغة ورحى تدور فلا تطحن إلا ما ينفع الناس، وأما الزبد فلم يذهب جفاء بعد.
ما ظنك بصاحب قلم يتحدث عن شركة قطاع أعمال فيصمها بكل عيب ونقص، ويروج لقصة مختلقة، دون أن يجهد نفسه فى معرفة ظروف الشركة وخطط تطويرها ومستجدات العمل بها.. فما يكون لقلمه من أثر سوى ضرب مصالح حملة أسهمها وضياع فرص تمويلها بزيادة رءوس الأموال عبر الطرح الثانوى فى البورصة، وتشكيك المجتمع المصرفى فى نزاهة إدارتها، بما يُحد من فرص تمويل توسعاتها عبر قروض البنوك وتسهيلاتها الائتمانية.. ناهيك عن الروح المعنوية السلبية التى يبثها فى العاملين.. هذا القلم غير المسئول وأمثاله يرتكبون جريمة أكبر من بث الشائعات والسب والقذف والطعن فى ذمم الشرفاء. هم يستنزفون المال العام ويهدرونه ويتركونه يدور فى دوامات الخسائر تماما كما يفعل سماسرة نهب المال العام وشركاؤهم. الصحيفة أيضا التى تسمح بنشر سلسلة من الشائعات رغم تكذيبها، وتعمد إلى تأخير نشر الرد والتكذيب ليست فوق الشبهات، عليها من الله ما تستحق.
النوايا الحسنة وحدها ــ وبفرض توافرها ــ لا تعفى مروجى الشائعات الضارة بحصص المال العام من المسئولية. الإشارات السلبية التى يطلقونها فى فضاء الأسواق، تتحول فورا إلى نزيف فى أسعار الأسهم، نتيجة للإفراط فى بيعها خشية أن تصيب تلك الإشارات شيئا من الحقيقة. مهما بلغت نظريات التوقعات الرشيدة من مغالاة فى افتراض رشادة المستهلك والمنتج فإن أيا منهما لا يملك إلا أن يتصرف وفقا لما لديه من معلومات، حتى وإن كانت مشوشة أو خاطئة بصورة تامة. وكلما كانت المعلومات التى يتم على أساسها التسعير غير معبرة عن السوق التى تتحدد فيها القيمة كانت الفجوة كبيرة بين سعر الأصل وقيمته، وهناك من يستفيدون من ذلك ويحققون مكاسب جمة على حساب باقى المتعاملين.
***
فى تشريعات الدول المتقدمة وممارساتها تجد حرمة المال العام أكبر من حرمة المال الخاص. فى تاريخ المسلمين الأوائل أيضا أمثلة مضيئة اتقى عبرها الخلفاء والصالحون مال الناس بصور يصعب على المحدثين استيعابها، حتى أن الطيب والعود فى بيت المال كان أحدهم يتقى الله أن يصيبه منه نفع ولو عبر استنشاقه بغير قصد! المال العام يختصمك فيه يوم القيامة ملايين البشر، فلا تمدن يدك إليه إلا بالحق.
السطو على المال العام يأخذ صورا أخرى، منها سرقة التيار الكهربائى، وقضبان السكك الحديدية، وكابلات الكهرباء وأغطية البالوعات... وكثير من الجرائم التى تضيع بين الأخبار، لكن لا يضيع حق وراءه مطالب. التحدى العاجل الذى يواجهه أمنة المال العام هو قدرتهم على التعامل معه وكأنه مالهم خاصة ومال أولادهم، متى تحقق هذا بشكل حاسم وشفاف، يئس سماسرة النهب وزهدوا فى أموال الناس، وبحث الدببة عن موضوعات أخرى سهلة يثيرون بها الضجيج، ويشبعون بها رغبتهم فى الظهور.
على النقيض من النهابين والدببة هناك أفكار وسواعد وأقلام جادة، لابد أن تتقدم الصفوف اليوم لتساهم فى تحقيق التطوير المنشود، والذى دعا السيد رئيس الجمهورية فى كلمة حديثة له بضرورة تضافر جهود «الجميع» بغية تحقيقه فى أسرع وقت، ولو تكلف ذلك مائة أو مائة وخمسين مليارا طالما أن العائد على الاستثمار تضمنه الدراسات وسابقات الأعمال وأهداف الربحية. لا يفهم من ذلك كراهة النقد أو الدعوة إلى مباركة كل الجهود بغير شروط! بل لا يزال أحدنا يخطئ ويتعثر ولا يرده عن ذلك سوى النقد المخلص، الذى لا يرجو ابتزازا ولا يميل مع الهوى.
هذا المقال ليس بلاغا ضد فئة من الناس، لكنه ناقوس إنذار يستهدف نفرين: أولهما المسئول كما يتحرى الحرص عند إطلاق فرص الاستثمار من عقالها، وفرز أصلحها باستخدام أدوات موضوعية ودراسات علمية. وثانيهما المواطن العادى كى يتبين الحقيقة فى زحمة الشائعات التى لا سبيل إلى منعها عبر الرقابة على مصادر بثها، فى زمن تنوعت فيه تلك المصادر وتطورت بشكل معقد، وإنما السبيل على الذين يستمعون الكذب فيصدقونه وينشرونه دون تدقيق، بل ربما يكتفون بالعناوين التى تصاغ كاذبة أحيانا على طريقة لا تقربوا الصلاة، بغرض شد الأعين. كذلك كان دليل التعامل مع الإفك من فوق سبع سنوات عبر قوله تعالى: «يَا أَيُهَا الَذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْما بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» صدق الله العظيم.