لست من أنصار القول بأن سيناريو التوريث الذى أجهض فى ٢٥ يناير ٢٠١١ هو الوحيد الذى انتفض عليه المصريون، لأن توريث المهن، وتدوير المواقع يمثل حقيقية اجتماعية قاسية فى المجتمع تمتد من مؤسسات رسمية إلى مهن خاصة، مرورا بالفن والاعلام والثقافة وايضا الحقل الدينى. اذا اردت ان تعرف أبعاد هذه الظاهرة يكفى متابعة صفحة الوفيات فى الصحف اليومية، التى من خلالها نطلع على عمليات توريث المهن فى شتى المجالات، وعادة من ينشر نعى فى صحيفة يكون مدفوعا بشعور تلقائى لابراز الشجرة المورقة للعائلة على سبيل المباهاة، والتى تساعد القارئ المدقق على تبيان ما يشمله المجتمع من صلات عائلية. ولم يعد الأمر يقتصر على الصحف، بل يتجلى أيضا فيما ينشره الناس عن أنفسهم فى مواقع التواصل الاجتماعى.
منذ فترة لاحظت فى نعى منشور ان جميع أفراد العائلة، وليست الاسرة، ينتمون إلى إحدى الهيئات، بما فى ذلك السيدات المتزوجات من رجال يعملون أيضا فى نفس المجال. استغربت، كيف ان التنوع الإنسانى فى التعليم والثقافة وتطلعات الحياة صار محجوبا لا يتحقق فى الواقع الذى يقوم فى غالبه على توريث الانتماء الوظيفى. اللافت للنظر انه حتى فى المهن أو التخصصات التى تحتاج إلى مهارات فردية وميول تعليمية خاصة مثل الطب نرى عملية التوريث تجرى فيها أيضا، حتى اننى لاحظت ان هناك أسرا بأكملها تعمل فى نفس المجال، بل فى نفس التخصص. قد لا احتاج إلى الاستطراد للحديث عن جوانب متعددة لظاهرة الاحتكار الناعم للمواقع فى شتى المجالات. ويظل هناك بالطبع فرق بين المجالين العام والخاص.
وسبب تسميتها بالاحتكار الناعم انها لا تحدث ضجيجا، ولا تخالف فى الغالب قواعد معلنة فى شغل المواقع، بل تمضى عبر السنوات فى نعومة شديدة، لا يكتشفها الا العارفون بالسجلات العائلية، وتفرعات العائلات، وعلاقات النسب والمصاهرة فيما بينها، ولا يقف فى وجهها اية تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية يمر بها المجتمع.
لست بالطبع ضد ان يذهب شخص إلى وظيفة أو موقع بناء على كفاءة شخصية، ولا يحرم منها لمجرد انه نجل فلان أو قريب علان، لكن كثيرا من النماذج التى نعرفها تقوم على التوريث التلقائى، دون مراعاة لكفاءات أو ميول فردية بما فى ذلك عالم المهن الخاصة والبيزنس. وكلما ضاقت الفرص فى المجتمع، تعمقت هذه الظاهرة، وازدادت تغلغلا، وهى بالتأكيد تجافى مبدأ الكفاءة، والأخطر انها تقوض دعائم ما تبقى من الطبقة الوسطى، حيث إن كثيرين ممن تمتعوا بفرص تولى مواقع عامة أو احرزوا تقدما فى الفضاء الخاص منذ عقود ذهبوا إليها بكفاءاتهم، وعبر آليات اتسمت إلى حد بعيد بالنزاهة والشفافية، بعض من هؤلاء انفسهم، وقد جاء قطاع عريض منهم من اصول ريفية، باتوا عمليا يديرون ظهورهم للمبادئ والاسس التى اعطتهم فرصا فى الترقى الاجتماعى خارج نطاق الانتماء العائلى، ويسعون منذ فترة، وقد توفرت لهم المكانة الاجتماعية إلى ضمان ديمومة الوضع الاجتماعى الذى يتمتعون به من خلال توريثه لابنائهم، وظيفيا واجتماعيا وماليا، دون نظر لاعتبارات الكفاءة والمساواة التى اعطتهم فرص تطوير نوعية الحياة. لست بحاجة إلى استعراض تداعيات ذلك من إحباط فى نفوس الشباب، وإغلاق منافذ الحراك الاجتماعى، وهنا تبدو مفارقة مهمة. انه فى الوقت الذى تسعى فيه الدولة إلى تغيير نوعية الحياة، وتخوض معركة التنمية بشتى أبعادها، وهى ترمى فى الأساس إلى توفير فرص جديدة للأفراد، نجد هناك استمرارا موازيا لممارسات قديمة من الاحتكار الناعم، وهو ما يعطينا درسا مهما مفاده انه من السهل تغيير شكل المجتمع، رغم كل المعاناة والمشقة، ولكن من الصعب تغيير مضمون العلاقات السائدة فيه.