أود بداية التأكيد على أن هذا المقال ليس تبريرا لتصريحات ترامب التى تطالب بحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة وحتى تتضح الأمور، والتى أقامت الدنيا ولم تقعدها. إنما هى محاولة لفهم الأسباب التى حدت بترامب إلى الإدلاء بمثل هذا التصريح الذى يحتوى على كل التناقضات، الجدية والهراء، الصواب والخطأ، التعميم والتحديد.
كما أود الجزم بأننى لا أتعامل مع المرشح الرئاسى ترامب بتهاون أو باعتباره مهرجا ولكن على أساس أنه نجح ــ رغم كل الصعوبات ورغم كل ما شن عليه من هجوم – أن يحتفظ بأعلى نسبة من المؤيدين من الجمهوريين، وصلت هذه النسبة بعد آخر مناظرة للحزب الجمهورى فى منتصف ديسمبر الحالى إلى ثمان وثلاثين فى المائة. ولا يجب الإقلال من شأن مثل هذا المرشح الذى بدأ يتلاعب بمؤسسة الحزب نفسها. فتارة يتوعد بأنه قادر على خوض الانتخابات كمستقل، بما يستتبعه ذلك من انقسام الناخبين وخسارة حتمية للحزب فى الانتخابات العامة. وتارة أخرى، على نحو ما أكده فى المناظرة الأخيرة، فهو يكن كل الاحترام لمؤسسة الحزب وزملائه من الجمهوريين تمهيدا لاختياره كمرشح للحزب. وينظر الكثيرون إلى ترامب باعتباره طابور خامس يعمل لصالح كلينتون داخل الحزب الجمهورى ويقدم لها الفوز الأكيد على طبق من فضة.
وهنا يكمن التناقض الأول فى تصريحات دونالد ترامب المتطرفة والمتعددة، سواء بالنسبة لترحيل الملايين من العمال غير الشرعيين أو منع دخول المهاجرين السوريين أو حظر المسلمين من دخول الولايات المتحدة، ووقع ذلك كله على مؤسسة الحزب التى تقف عاجزة فى التعامل مع دونالد ترامب. فهل ستتخذ المؤسسة قرارها بإقصائه من سباق الرئاسة لصالح مرشحين داخل المؤسسة أمثلة جيب بوش وكروز وماركو روبيو، رغم كل تداعيات مثل هذا القرار؟ وكيف للحزب الجمهورى والحزب الديمقراطى التعامل مع مرشحيهم من خارج نطاق مؤسستيهما، وهى الظاهرة التى أخذت أبعادا استثنائية فى هذه الانتخابات واستئثار مرشحين– أمثلة ترامب وكارسن وساندرز من الحزب الديمقراطى – بنسبة كبيرة من الأصوات.
***
وفى محاولة جادة من جانبنا لفهم تداعيات تصريحات ترامب، يتعين علينا بادئ ذى بدء، إيضاح أنها لقيت تأييدا يعتد به لدى الناخب الأمريكى، وأبانت استطلاعات الرأى التى قامت بها مؤسسة بلومبرج، أن خمسا وستين فى المائة من الناخبين فى الانتخابات التمهيدية للجمهوريين، يؤيدون تصريحات ترامب. بل إن الكثيرين يؤمنون بأن ترامب هو الرئيس القادر على حمايتهم ضد الإرهاب. هل يسمح لى القارئ فى هذا السياق بتشبيه تصريحات ترامب بمثلنا البلدى المعروف «الباب اللى يجيلك منه الريح سِدَه واستريح»، فألا نعتبر جميعنا أنه من قبيل التعقل والرشد الابتعاد عن المشكلات حتى وإن كان ذلك على حساب اتخاذنا أكثر المواقف تطرفا؟
ويقودنا ذلك إلى التناقض الثانى فى تصريحات ترامب، والمتمثل فى تناقض المجتمع الأمريكى نفسه. فإن ترامب يخاطب بهذا التصريح فئة ما زالت لها عنتريتها وهيمنتها فى المجتمع الأمريكى، تؤمن بسيادة العرق الأبيض وتشمل اليمين المتطرف فى الحزب الجمهورى. كيف يمكن للشعب الأمريكى الذى طالما يعمل على تقديم نفسه للعالم أنه يمثل مبادئ الحرية والمساواة، وأنه شعب محب للتنوع فى الرأى والدين وقبول الآخر أن يستسلم إلى مثل تصريحات ترامب، التى تنم عن خطاب للكراهية وتعد إهانة صريحة للمبادئ التى يعتنقها الشعب الأمريكى؟ وإذا ما استرجعنا تاريخ الولايات المتحدة المقتضب، فإننا نجد أنه رغم المحاولات المتكررة والعنيفة التى مر بها، فإن الشعب الأمريكى أخفق فى لفظ العنصرية وفشل فى التنصل من سيادة العرق الأبيض، فهما باقيان ومتأصلان فيه، وهو الأمر الذى يجعل مثل تصريحات ترامب – وهى ليست فريدة – تلقى قبولا وتأييدا.
***
ويتمثل التناقض الثالث فى التعميم المخل فى تصريحات ترامب بصفة أساسية. فعلى الرغم من أن مثل هذا التعميم لا يخاطب المنطق أو العقل، فإن السياسيين كثيرا ما يلجأون إليه لتعبئة مشاعر القاعدة الشعبية واستقطابها. وهذا ما نجح فيه ترامب إلى حد بعيد. وليس أدل على ذلك من أن المناظرة الأخيرة بين الجمهوريين، المشار إليها، لم يجرؤ أى من المرشحين على مهاجمة ترامب علنا فيما قاله عن حظر المسلمين من الدخول إلى الولايات المتحدة. وحرصا كروز وروبيو طوال المناظرة – وهما اللذان يأتيان مباشرة بعد ترامب فى الترتيب – على عدم التعرض بالهجوم ضد ترامب، خشية من تقليب أصوات مؤيديه عليهما.
بيد أن كلينتون قامت بانتقاد تصريحات ترامب بشدة فى ظهور أخير لها فى جامعة مينسوتا، فى محاولة منها لاستقطاب الناخب المسلم فى الولايات المتحدة «يصل تعداد السكان المسلمين فى الولايات المتحدة إلى سبعة ملايين مسلم».
وصرحت كلينتون، أن تصريحات ترامب بها ضرر بالغ لمصلحة البلاد، وضرورة التعاون مع المجتمع المسلم الأمريكى، وتمكينه من أن يكون الخط الأول للمواجهة فى المعركة التى تستهدفها الولايات المتحدة ضد التطرف وفى حربها ضد الإرهاب.
وانتقدت كلينتون الجمهوريين جميعهم ومواقفهم المتطرفة ضد المسلمين بقولها، إن لغتهم قد تكون مستترة أكثر مقارنة بترامب، ولكن لا خلاف فى الأفكار فيما بينهم.
قام المرشحون الجمهوريون بالمزايدة على بعضهم البعض، من خلال المطالبة بتشكيل قوى عسكرية من دول المنطقة لمحاربة داعش، حيث إنه من الواضح أن القصف الجوى وحده لا يفى بالغرض. وبغض النظر عن ظهور نغمة جديدة لدى الجمهوريين بضرورة التعاون مع دول المنطقة، فإن مصر كانت سباقة فى المطالبة فى مستهل هذا العام بإنشاء قوة عربية مشتركة فى إطار جامعة الدول العربية، قوة قادرة على التدخل للتصدى لأى خطر يداهم أو يهدد الدول العربية. ومن هذا المنطلق، جاء تأييد مصر لإعلان المملكة السعودية بتشكيل تحالف عسكرى إسلامى، رغم كل أوجه الخلاف الذى يشمله الاقتراح السعودى الإسلامى مقارنة بالمقترح المصرى العربى. فإن مصر على نحو ما صرح به المتحدث الرسمى للخارجية، تستهدف مكافحة الإرهاب والقضاء عليه، سواء كان ذلك الجهد إسلاميا أو عربيا.
***
وتفرض سياسات الإدارة الأمريكية الخاطئة عامة وتصريحات ترامب المتطرفة خاصة، تفرض على مصر – دون غيرها بمثقفيها ومفكريها وتسامحها وانفتاحها ــ مسئولية مزدوجة بالنسبة لتفهم ظاهرة الإسلام فوبيا أى الخوف الذريع من الإسلام والمسلمين دون تفرقة بين المعتدل والمتطرف، وكيفية التعامل مع هذه الظاهرة والتصدى لها. فهل لمصر أن تقود نقلة ثقافية لمنطقتنا تثبت فيها للعالم الخارجى أننا قادرون على التأقلم والتعايش مع التطور والتقدم دون المساس بمبادئ وتعاليم ديننا الحنيف؟ وكيف لا وظاهرة الإرهاب ظاهرة حديثة فى تاريخنا، ظهرت وترعرعت نتيجة أطماع وطموحات سياسية، والدين برىء منها.
فمصر تنادى بقوة بتغيير الخطاب الدينى، بما يتطلبه ذلك من شجاعة وإقدام. وأن مصر هى الوحيدة القادرة على جمع مثقفيها تحت قبة واحدة للتصدى لهؤلاء الذين أساءوا للدين الإسلامى وجعلوا الجميع شرقا وغربا يخشونه ويتحاشون من يتبعه. فيتعين علينا ألا نكتفى بترديد أن هؤلاء الإرهابيين لا ينتمون إلى الدين الإسلامى، والأهم هو كيف لنا أن نقنع الغرب، الذى يرجح العقل على العاطفة، أن هذه المنظمات المتطرفة لا تنتمى إلى الإسلام ونحن نواجه يوميا زيادة المتطوعين فى هذه المنظمات من الجنسيات المختلفة. فمن أين لهذه المنظمات بمؤيديها إن لم يكن هناك عقيدة راسخة تحركهم؟ ومن هنا يتطلب الأمر وضع استراتيجية متكاملة ومضادة تخاطب أولا المسلمين أنفسهم وتخاطب الغرب من خلال صياغة الحجج التى تخاطب العقل بعيدا عن المشاعر والانفعالات. وأحد لن يمكنه القيام بمثل هذه المهمة سوى المثقفين فى مصر من خلال مخاطبتهم العقول. فإن الإرهاب لا يعرف دينا ولا ملة، وهذه المنظمات منظمات إرهابية، ولا ينبغى أن يخطئ الغرب فى إقران هذه المنظمات الإرهابية بالدين الإسلامى.
***
أخيرا وليس آخر، ما زال أمام الجمهوريين مناظرتين، وسوف يبذل ترامب قصارى جهده للبقاء فى المقدمة، بينما تشتعل حرب المنافسة، على نحو ما تبين فى المناظرة الأخيرة بين عضوى مجلس الشيوخ تد كروز عن ولاية تكساس وماركو روبيو عن ولاية فلوريدا مقتنعين أن سياسات ترامب المتطرفة لن تجدى فى النهاية على مستوى الانتخابات العامة وفى مواجهة هيلارى كلينتون. وما يمكن لنا الجزم به هو أن الانتخابات القادمة نجحت فى إبعاد الحزبين عن الوسط التقليدى للسياسة الأمريكية. فما نواجهه اليوم هو تطرف يمينى واضح لدى الجمهوريين وتوجه إلى اليسار الوسط من قبل كلينتون لاستقطاب أصوات منافسها بن كارسن. ولا نستبعد فى وسط هذه المعركة العودة إلى ما قد يشبه فترة الحرب الأهلية، بما يعنيه ذلك من تفاقم الحرب بين مؤيدى سيادة العرق الأبيض فى مواجهة الأقليات فى الولايات المتحدة، من السود الأفارقة والمهاجرين والمسلمين وغيرهم.