وسط تراشق سياسى حاد بين مؤيدى السلطة ومعارضيها فى مصر حول إبعاد واستبعاد وانسحاب المرشحين الجادين من الانتخابات الرئاسة المقبلة، وحملات مشتعلة من الاتهامات والاتهامات المضادة حول دعوات لمقاطعة هذه الانتخابات، تراجع الاهتمام العام بالبحث عن كيفية وتوقيتات إجراء إصلاحات سياسية وديمقراطية، ليس فقط لضمان إجراء هذه الانتخابات بحرية ونزاهة، ولكن أيضا لتفعيل مواد الدستور فيما يتعلق بالحريات السياسة وحقوق الإنسان، والتى يبدو أنها أصبحت حبرا على على ورق !.
الدستور فى المادة «5» ينص على أن نظامنا السياسى يقوم على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وتلازم المسئولية مع السلطة، واحترام حقوق الإنسان وحرياته، وفى المادة «65» ينص على كفالة حرية الفكر والرأى وحق التعبير بالقول والكتابة، وفى المادة «73» ينص على حق تنظيم الاجتماعات والمواكب والتظاهر وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، فى نفس الوقت الذى يحدد فيه الدستور فى مواده المتعلقة بنظام الحكم صلاحيات واسعة لمجلس النواب فى إقرار أو رفض السياسة العامة للدولة والميزانية وخطط التنمية الاقتصادية والرقابة على السلطة التنفيذية بل ومحاكمة وعزل رئيس الجمهورية بجانب دوره الأصيل فى التشريع، كما يعطى الحكومة الحق فى رسم سياسات الدولة بالاشتراك مع رئيس الجمهورية.
ومع ذلك فقد جاءت انتخابات الرئاسة بدون أن تعبر ــ بل ولا حتى تلتزم ــ بكل هذه القيم الديمقراطية والحقوقية المنصوص عليها فى الدستور، وهو وضع لم يأت من فراغ، بل نتيجة ممارسات حكومية طوال السنوات الخمس الماضية حرصت خلالها السلطة على تغليب الاعتبارات الأمنية على كل قراراتها السياسية، وعلى غلق المجال العام وإطلاق خطاب سياسى يطالب المصريين بالاصطفاف خلف السلطة أو بجوارها لتحقيق الأهداف التى تتبناها هى هذه السلطة وبالآليات التى تراها هى وحدها صحيحة وأن ما عداها باطل!.
قوة أى نظام سياسى لن تتحقق إلا باحترامه للدستور، وشرعية أى انتخابات رئاسية أو حتى برلمانية لن تكتسب أى مصداقية إلا بإجرائها طبقا لروح الدستور قبل نصوصه، وبأن يلتزم الفائزون بها بالصلاحيات التى يحددها لهم هذا الدستور، بدون أى تجاوز ولا افتئات على حقوق السلطات الأخرى!.
كان المفترض أن تكون انتخابات الرئاسة المقبلة فرصة لنقد سياسات الرئيس عبدالفتاح السيسى طيلة السنوات الأربع الماضية، وأن نقارن بين وعوده الانتخابية وما تحقق منها على أرض الواقع، ولماذالم يتحقق بعضها الاخر؟، وأن نناقش برنامجه الانتخابى فى ولايته الثانية مع برامج المرشحين المنافسين من مختلف التيارات السياسية والفكرية، وأن نقارن بينها فى مناخ ديمقراطى، وأن تعقد المناظرات بين كل المرشحين بلا استثناء، حتى يصل الناخب فى نهاية الأمر إلى اختيار المرشح الذى سيعطيه صوته عن قناعة تامة.
انتخاباتنا الرئاسية ستكون بطعم ولون ورائحة الاستفتاءات ، ستغيب عنها قضايانا السياسية والاقتصادية الكبرى، بوادرها غير الديمقراطية تشى بأنها لن تؤسس لانفتاح سياسى على قيم ومواد الدستور، ولا حتى على المطالب التى كان يأمل فى تحقيقها ملايين الناخبين، وتدفعهم للمشاركة بكثافة فيها، فحتى منافس الرئيس السيسى الوحيد فيها كان قبل ترشحه بعدة ساعات من أشد الداعمين والمؤيدين له والمطالبين بترشحه لولاية ثانية!.
الأزمة الحقيقية التى سوف نواجهها بعد عدة شهور تتمثل فى أن فشلنا فى إجراء انتخابات تعددية تنافسية بالمعايير الديمقراطية، سيكون له انعكاساته السلبية على أى أمل فى إجراء إصلاحات سياسية، بل ربما ستقضى هذا الأمل من جذوره!.