فى عالم اليوم، لم يعد لمن تجتذبهم أروقة الحكم أو يتلاعب بعقولهم التطلع إلى السلطة الكثير من الرونق الأخلاقى أو الإنسانى أو الكاريزما السياسية.
هل تجدون، أعزائى القراء، بين رؤساء ورؤساء وزراء ورؤساء برلمانات الحكومات الديمقراطية أو بين حكام النظم الشمولية والسلطوية من يستحق الإعجاب برؤيته أو الإشادة بسياساته ؟ هل تستطيعون العثور على حاكم واحد له القدرة على إلهام مواطنيه، دون تزييف لوعيهم؟.
عن نفسى لم أعد أجد بين متصدرى أروقة الحكم ودوائر السلطة من يستحق الإعجاب الحقيقى. فى نهايات 2015 وإزاء أزمة اللاجئين السوريين، سجلت المستشارة أنجيلا ميركل موقفا أخلاقيا وإنسانيا رائعا حين دفعت الحكومة الألمانية إلى توفير ملاذات آمنة لآلاف اللاجئين .
غير أن المستشارة سرعان ما تراجعت عن «سياستها المسئولة»، ما أن اتضحت التداعيات السلبية «لقضية اللاجئين» على شعبيتها وشعبية ائتلافها الحاكم وتوالت استطلاعات الرأى العام محذرة من احتمال خسارة «المستشارة الحديدية» للانتخابات التشريعية. وعلى وقع التراجع عن السياسة المسئولة، تعالت أصوات السياسيين العنصريين الذين يروجون لكراهية الأجانب .
خلال سنوات إدارته الأولى والثانية (2008ــ2016)، ألهم الرئيس الأمريكى باراك أوباما قطاعات واسعة بين مواطنيه حين نفذ سياسات اقتصادية واجتماعية انحازت إلى محدودى الدخل والفئات الوسطى، كان أبرزها تعميم الرعاية الصحية وفرض ضرائب إضافية على أصحاب الدخول المرتفعة.وكذلك حين وظف سلطاته الرئاسية (الأوامر التنفيذية) لتجاوز معارضة الكونجرس (الذى يتمتع به الحزب الجمهورى بأغلبية المقاعد) لتقنين أوضاع المهاجرين غير الشرعيين المتواجدين فى الولايات المتحدة وحمايتهم. غير أن المبالغة فى توظيف السلطات الرئاسية أفسدت من جهة توازن النظام السياسى الأمريكى القائم على الرقابة المتبادلة بين الرئيس وسلطته التنفيذية وبين السلطة التشريعية التى يمثلها الكونجرس وكرست من جهة أخرى لوضعية استقطاب حاد بين الديمقراطيين والجمهوريين يستغلها اليوم بعض السياسيين الغوغائيين كدونالد ترامب لاكتساب تأييد شعبى مؤثر.
كذلك لم يتمكن أوباما من تنفيذ سياسة خارجية تتسق مع قيم الحق والعدل والحرية التى تبناها فى الداخل الأمريكى أو تتسق مع أهداف الحفاظ على السلم والأمن العالميين التى أعلن تبنيها حين جاءت به أغلبية الناخبين ليأخذ مكان رئيس الحروب جورج بوش (2000ــ2008). تجاهل المقتلة السورية وتابع مأساتها كمتفر،وتجاهل تنامى عصابات الإرهاب وعندما قرر مواجهتها استخدم ذات الأدوات الأمنية والعسكرية التى استخدمتها إدارة بوش عقب سبتمبر 2001، تجاهل أزمة اللاجئين التى رتبتها حروب بلاد العرب وتجاهل السياسة العنيفة لأطراف دولية كروسيا ولأطراف إقليمية كالسعودية وإيران التى رتبت حروبا بالوكالة فى العراق وسوريا واليمن، تجاهل نتائج التدخل العسكرى الأمريكى فى ليبيا وتركها عائمة على سلاح وقبائل متحاربة وعصابات إرهاب.
إذا كان هذا هو حال «المستشارة الحديدية» بعد بضعة أشهر من ممارسة السياسة المسئولة وحال «رئيس نعم نستطيع» على الرغم من التأييد الشعبى الواسع الذى تمتع به ومازال، فلا عجب فى أن يتصدر المشهد السياسى فى الديمقراطيات اليوم ترامب وأمثاله.ولا عجب فى أن يتصدر المشهد فى النظم الشمولية والسلطوية حكام يتورطون فى القتل والقمع والفساد. ولا عجب فى أن تأتى تصريحات المسئولين والسياسيين متشابهة بين الديمقراطيات وأضدادها داعية إلى محاكمات جماعية وعقاب جماعى وانتقام شامل من المختلفين مع الحكومات.