الخيال.. الواقع.. والسياسة - يوسف الشاذلى - بوابة الشروق
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 5:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخيال.. الواقع.. والسياسة

نشر فى : السبت 5 مايو 2012 - 8:30 ص | آخر تحديث : السبت 5 مايو 2012 - 8:30 ص

أغلب من كان يشكك فى إمكانية حدوث حراك شعبى واسع فى مصر خلال السنوات العشر الماضية، أو كان يستهزئ بتلك الفكرة، كان يعيب على الشباب المناضل خيالهم الواسع وابتعادهم عن أرض الواقع. والنظرة «الواقعية» للسياسة كانت دائما تكتفى بالموافقة على الوضع الحالى(status quo)، ومحاولة إدخال بعض التغييرات على هذا الوضع، منها الصالح ومنها الطالح، لتحسينه قليلا. كأن فكرة التغيير الجذرى فقدت رونقها وأصبحت ملكا للتاريخ ولا يتبقى لنا إلا محاولة التعامل مع ما هو موجود. كأننا وصلنا إلى «نهاية التاريخ» كما نظر له الفيلسوف فرانسيس فوكوياما. الدولة الحديثة كما هى الآن التى هى طريقة لتنظيم الحياة الجماعية عمرها قصير جدا فى تاريخ البشرية، بتنظيمها الاقتصادى (المتمثل فى الليبرالية الجديدة)، تظهر وكأنها أفضل ما توصلنا له وما سنتوصل إليه.. «عالم جديد شجاع»… كان الحلم والخيال يعتبر من السمات الحسنة أيام الثورة الفرنسية بأفكارها التنويرية، لم يتبق لنا إلا «خليك واقعى واطلب على قدك وسيبك من كلام الإنشا ده». واختفت النظرة الجذرية لدى أغلب التيارات، يمينا ويسارا، وباتت المبادئ الجذرية فى الاتجاهين عارا وطيش شباب من وجهة نظر العديد من السياسيين.

 

 

●●●

 

فى الحقيقة، الكثير من مثقفى المكاتب والمكتبات كانوا يعطون إيحاء بأن بعض الحركات الشبابية أو الجذرية فى رأيهم لم تكن تدرك أو تعى أهمية البحث عن الدعم الجماهيرى، وأن هؤلاء الشباب كانوا سعداء ومكتفين بمظاهراتهم الصغيرة المنحصرة ما بين شوارع عبدالخالق ثروت، طلعت حرب ومربع وسط البلد. فأى محاولة تجديد أو ابتكار كان يقابل باستهزاء أو بتعال من قبل الأجيال الأقدم «أصل الثورة مش بتتعمل كدة». وكأن كل مشكلة حلها فى التاريخ، وأن أى حدث مر يجب تقليده حرفيا للوصول لنصر مماثل (وننسى هكذا أحد تعاليم علم الاجتماع الأساسية.. لا يوجد حدثان اجتماعيان متطابقان أبدا). مرة أخرى، كله «زى ما الكتاب بيقول»، لا وجود للخيال، أو التجربة، أو مساحة للخطأ.

 

مشكلة العودة للجماهير كانت دائما موجودة فى ذهن النشطاء وفى كتاباتهم. ولعل التركيز على هذه النقطة كان نتيجة مباشرة لتعاملهم مع الأجيال الأقدم، لاسيما خلال موجة حركة كفاية وشقها الشبابى المتمثل فى حركة شباب من أجل التغيير وكل التجارب التى قامت فى أعقابها، أيا كان لونها السياسى. فارق الخيال وعدم الاكتفاء بأقل التغييرات كان صلب الاختلاف ما بين أجيال الطوارئ أو أجيال مبارك والأجيال السالفة.

 

ومشكلة اليوم أنه بعدما قام الجميع «بتحية الشباب»، اتجه كل واحد إلى كرسيه وعاب على أجيال الثورة فقدان النظرة «المابعدية» والبرنامج والقيادة وما إلى ذلك. يحاول الجميع إضفاء تغييرات طفيفة على النظام الحالى، كما لو كان النظام ممتازا والناس فقط هم الفاسدين. فيشرح لنا العديد أن الشعب لم يرد حقا إسقاط النظام.. وإنما فقط نظام مبارك. وعامة.. هل يوجد أى نظام آخر صالح؟ «طب لما نشيله حنعمل إيه بعدين ؟».

 

●●●

 

فى أواخر عام 1790 أى بعد نحو عام من اندلاع الثورة الفرنسية بدأ الملك لويس الـ16 وحاشيته فى التفكير فى طريقة عملية للانقضاض على الحركة الثورية. وعلى الرغم من أن لويس كان قد شارك فى احتفاليات العيد الأول من الثورة، بل كان قد أدى اليمين الدستورية وأقسم بالوفاء للوطن والقانون، كان فى داخله يرفض تماما هذا الوضع المهين له. (وجدير بالذكر أن القائمين على هذا العمل فى ذهن لويس لم يكونوا سوى قوى خارجية ومخربة.. انساق وراءها الشعب الأبله. جدير بالذكر أيضا أن فى تلك الفترة كان ملك فرنسا لا يزال له شعبية قوية فى كل أرجاء فرنسا، الذى رأى الشعب فيه حاميا ومناصرا للثورة).

 

فى هذا الوقت لم تكن فكرة التحول من نظام الملكية الدستورية إلى الجمهورية لها شعبية كبيرة خصوصا خارج العاصمة وكان يعد شيئا غير «واقعى»، مكانه فى خيال أقلية من القوى الثورية.

 

قام لويس السادس عشر ومن حوله بالتخطيط للهروب من قصر التويلريه الذى كان يقيم به جبريا تنفيذا لأوامر الجمعية التأسيسية. باختصار، كانت الخطة قائمة على هروب الملك شرقا ولقاء أحد جنرالات الجيش الموالين له والمعادين للثورة. يتم بعدها القيام بعملية عسكرية لاسترداد العاصمة والرجوع للنظام القديم ولا مانع من إدخال بعض التعديلات فى النظام الملكى كى تهدأ الجموع الثورية.

 

فى ليلة 20/6/1791، تحرك لويس متنكرا مع أفراد أسرته وشد الرحال شرقا. فى الصباح، علم الجنرال لا فاييت، قائد الجيش القومى الذى كان قد شكل فى يوليو 1789 (والذى كان فى العشرينيات من عمره..)، بهروب الملك وبعث فى كل الاتجاهات رسائل تأمر بإيقافه وإعادته إلى العاصمة باسم المجلس التأسيسى. شاء القدر أن يصل الملك متأخرا لمدينة فارين التى كانت تقع على مقربة من مكان انتهاء رحلة الهروب. وفى فارين حدث شىء تاريخى، وهو أن الشعب الذى كان لا يعرف وجه الملك إلا بسبب وجوده مصكوكا على النقود، والذى كان يعتبر بالنسبة لهم ملكا مقدسا مختارا من الرب.. وقف الشعب وهلل وصرخ «عاش الملك».. ومنعه من إكمال رحلته! فى خلال ساعات، قامت المدن والقرى المجاورة لتدافع عن الثورة والدستور ورفضت ما كان الحال عليه لمدة قرون. فعل الشعب ما لم يكن يتخيله أصلا. سبق الفعل الخيال.

 

ابتداء من حادث فارين الشهير، تبلورت فكرة الجمهورية وتزايد عدد مناصريها حتى أعلنت فى سبتمبر 1792. ويعد حادث فارين من أكثر أحداث الثورة الفرنسية أهمية ودلالة (ولمن يهمه الأمر، ننصح بقراءة كتاب المؤرخ Timothy Tackett عن الموضوع، والتشابهات مع الحالة الثورية فى مصر عجيبة!).

 

●●●

 

قلة الخيال مرض عند البعض ويكون له آثار جانبية كثيرة منها البلاهات الإعلامية التى نسمعها يوميا مثل «ثورة مالهاش قائد». تلك الفكرة تنبع من العقليات الأمنية والانقلابية التى تعودت على التخطيط والتجهيز للسياسة متناسين أن أساس السياسة هو عدم المعرفة لأن القرار يكون للشعب وآراء الشعب دائمة التغير. وتفشل تلك العقليات فشلا ذريعا فى فهم معنى الثورة الشعبية. الثورة الشعبية ليس لها قائد. الثورات الشعبية دائما تأخذ وقتها فى إفراز قياداتها. وقد حان الوقت أن نتوقف عن البحث عن القائد المغوار ونبحث أكثر عن القيادة التمثيلية التى تعترف باختلاف المصالح فى أى ثورة. كل شخص مصرى شارك فى الثورة شارك لأسبابه الشخصية. وصحيح أن من الممكن محاولة تلخيص تلك الأسباب فى أسباب عامة أكثر ولكن لذلك نحتاج لابتكار آليات جديدة لفهم أننا لا نريد أن نتفق طوال الوقت على كل شىء (وهذا إرث لفترات شمولية علينا التخلص منه).. الإجابة ليست دائما فى التاريخ وفى الطرق المعتادة.

 

فى الجمعية التأسيسية الفرنسية أيام الثورة، لعبت «النوادى» دورا مهما فى مناقشة الأفكار وتجهيز جلسات المجلس. فى عصر أصبح فيه النقاش والتحاور عبر المسافات أسهل من أى حقبة تاريخية أخرى، ما الذى ننتطره لابتكار طرق جديدة لعمل السياسة وللتنظيم بعيدا عن الدولة القمعية المركزية؟

يوسف الشاذلى باحث دكتوراه فى العلوم السياسية بجامعة لوزان فى سويسرا
التعليقات