مَرَّ عامٌ كاملٌ أو ما يزيد ولم أزل أكتب
مقالاتي الانطباعية حول اللغة، لا عن اختصاص مهنيّ أصيل، ولا انتحالًا لصفة ليست لي؛ إنما سعيًا إلى صقل ما أستخدم أنا نفسي من أدوات، ورغبة مُلحة في الإتقان. اللغة محيط ممتد، مترام، يغري بالإبحار رغم عمقه؛ إجادتها إجادة لعملية التفكير، وإهمالها والتعالي عليها من الكبر والغرور، والظن بأنها زائدة عن الحاجة أو كمالية يمكن الاستغناء عن كثيرها لمن قِصَر النَّظر، وفي بعضِ الأحيان اجتنابٌ لجَهدٍ لم يعد في مَقدور المرءِ بذله.
• • •
لم يخبُ اعتقادي على مرّ الأيام بأن امتلاكَ ناصية اللغة؛ أيّ لغة يستخدمها المَرءُ، تحريرٌ للعقلِ وإطلاقٌ لمَلَكَاته، وما رَمَيت إلى تَدقيقِ ما أكتُب وتحرّي صَوابِه؛ إلا أملًا في اتقاءِ الحَرَجِ الذي قد ينشأ عن جَهلٍ أو سَهو، وميلًا إلى تأصيل المعرفةِ الفرديةِ العابرة، فتعميمها وجعلها مُشتركةً لمَن فاضَ فضولُه وأحب. فكَّرت أن أطرقَ في مقالاتِ العامِ الجديدِ هذه الكلماتِ التي ساد الظنُّ بأنها من العاميةِ الخالصةِ؛ فإذا بجذورٍ مُتشعِّبة، وأصولٍ مُمتدةٌ إلى قاموسِ العربيةِ الفُصحى، وإلى قواميس غيرها من الُّلغات التي مَرَّت بنا مع وقائعِ الدَّهر وعلقت بحقبِ التاريخِ، فاقتبسنا منها، وروَّضنا ما أعجبنا واستبقينا ما احتجنا إليه، وبقي الأثرُ واضحًا على ألسنتنا. مِن هذه الكلمات ما هو طريفٌ خفيفٌ وما هو عجيبٌ مُدهش، وما يستعصي الإقرارُ بأصلِه وفَصلِه، وعشمي أن أقدِّم ما يُمتِع، وما قد يُحرِّض على القراءةِ والمُتابعة، ويُحفِّز على الاشتباكِ والتفكير.
• • •
تقول معاجمُ اللغةِ العربية إن عَشِمَ الشيء أيّ طَمِع فيه، وعشَّمه بالأمر أي أمَّله به ووَعَده إياه، أما المصدر فتعشيم. تحملُ كلمةُ العَشَم مشاعرَ مُتعدِّدة؛ هي عامرةٌ بحسن الظنِّ، وفيها أيضًا مَقادير مِن الوِدِّ والقُرب. لا يقومِ العَشمُ في أصلِه وجَوهرِه على وجودِ مَصالحٍ مُتبادلة بين طرفين؛ إنما وفاق وتقدير وفي المُقدِّمة منهما مَحَبَّة، فإن طلبَ واحد من الآخر طلبًا مُغالى فيه أو سأله مَعروفًا صعبَ التنفيذ، قال الناسُ في مَعرضِ التبرير: "مِن عَشَمه"، والقصد أن العلاقاتِ الوثيقةَ تسمح بتجاوز الحدودِ العاديةِ وبتمنّي الكثير. ثمَّة ما يكفُل العَشَمَ وما يُبيح الأمل.
• • •
إذا طَمِعَ الواحد فيما لا يرقى إليه عملُه، أو أراد أمرًا يبعد مسافاتٍ شاسعةٍ عنه؛ قيل له: "عَشَم إبليس في الجنَّة"، والقصد ولا شكَّ استنكارٌ لمطامِعه، وإنكارٌ تام لإمكانيةِ تَحقُّقها، وسُخرية في الوقت ذاته من حُمقِ تصوُّره، وطُموحه لما هو مُستحيل؛ مثله مثل الشيطان في المُوروثِ الدينيِّ إذ يرجو الفردوسَ الأعلى.
• • •
قد يتقاعسُ المَرءُ عن إجابةِ سائلٍ أو يتوان عن نصرَةِ صديقٍ أو قريب، فيلقى منه الَّلومَ والعتاب، وتكون العبارةُ الخالدة: "ما كانش العَشَم" أبلغَ ما يُقال، والمعنى أن الفعلَ قد جاء ضئيلًا بما لا يُلائم التوقُّعات الضَّخمة، وأن الفجوةَ بينهما قد صنعت جَفوة، ولا شكّ أن العَشَمَ عند أصحابِ المشاعرِ المُرهَفة والانفعالاتِ السريعةِ، يفوق الاحتكامَ إلى المَنطِق ويُجاوِز الواقع.
• • •
ربما تضيقُ الطريقُ بعابريها، وتنغلقُ السُّبلُ بالسائرين فيها، ويَحلُّ العجزُ رفيقًا لا منجى منه، فيُقال حينها والقلوبُ عالقةٌ بما لا ترى الأعينُ: "العَشَم في ربنا كبير". العَشَم عند المؤمنين بابٌ لا يُسَدُّ ومَعين لا ينضُب؛ لكنه قد يُصبح أيضًا مُتكأً يُغني عن بَذلِ الجهد، بل وعن الكِفاح مِن أجلِ انتزاعِ الحقّ.
• • •
ثمَّة مأثورٌ شَعبيٌّ يقول: "عشَّمتني بالحَلَق؛ خَرَمت أنا وداني"، والمراد هو التأكُّد مِن وُعود أو عُهود أو كلماتٍ تُقال، قبل اتخاذ خُطواتٍ مَبنيةٍ عليها؛ فالخطوةُ التي تسبقُ وقوعَ المَرجو، قد تضلُّ هدفَها وتذهب هباءً إن لم يقَع، والانخداع في مَعسولِ الكلامِ قد يَجلب من التوابع ما لا يُمكن إصلاحه.