فى صباح اليوم التالى لمذبحة بورسعيد، ونذر الغضب تؤذن بمواجهات جديدة، طلب المجلس العسكرى من رئيس مجلس الشعب الدكتور «سعد الكتاتنى» أن يعلن بنفسه من فوق منصة البرلمان عدم بث الجلسة الطارئة التى دعا إليها على الهواء مباشرة، وجرت اتصالات وتفاهمات أخرى حول الطلب ذاته.
كان الهاجس الرئيسى الذى حكم تصرفات العسكرى عقب المذبحة أن تقوض تداعياتها سلطته بصورة يصعب بعدها أن يكون طرفا فى معادلات تقرير المستقبل.
وكان ذلك أول اختبار جدى للبرلمان الجديد أمام رأى عام غاضب يتابع جلسته الطارئة من على شاشات التليفزيون فى البيوت والمنتديات العامة. وكان لافتا تمرد نواب حزب الأكثرية على اقتراح «الكتاتنى»، وهو تمرد سياسى داخل جماعة منضبطة يقود إلى فرضيتين.. الأولى، أن نواب الجماعة استعصوا على التعليمات، فالرأى العام يتابع ويصدر أحكامه والضمائر الإنسانية لا تتحمل وزر التغطية على الجرائم. وهذه فرضية تنبئ بتحولات بطيئة ولكنها مضطردة داخل الجماعة تخرجها من عوالم السمع والطاعة التى تحكم علاقاتها الداخلية إلى عوالم السياسة بمفاهيمها الحديثة.. والثانية، أن قيادة الجماعة حاولت أن تفلت من الضغوطات دون أن تنقض التفاهمات، أن تكسب الرأى العام دون أن تصطدم مع العسكرى، فالتفاهمات معه من ضرورات التقدم إلى السلطة.. استجابت لطلبه دون أن تلزم نوابها بقرار. والمعنى فى هذه الفرضية أن الجماعة خالفت عمليا ما اتفقت عليه، فالانضباط على إيقاع العسكرى يضعها فى موقع إدانة أمام الرأى العام، ولكنها سعت بوسائل أخرى لتأكيد الالتزامات ومنعت صدور أى قرار له صفة الحسم فى محاولة لكسب الوقت حتى تهدأ المشاعر العامة.
لا قرار الآن فى انتظار التفاعلات والضغوطات ونتائج التحقيقات، وهو توجه حكم تفكير العسكرى وأداء الجماعة بالتزامن، ولكنه أدى إلى نتائج معاكسة، حملات أوسع على العسكرى ومواجهات أعنف مع الأمن.. وإحراج الجماعة أمام أنصارها. محاولة الهروب من الاستحقاقات السياسية التى ترتبها المذبحة أدت سريعا إلى مواجهات اخرى، وضحايا آخرين فى محيط وزارة الداخلية.. وهى مواجهات تبدت فيها أزمة دولة فقدت بوصلة الأمن فيها، تاهت الحقائق فى تدافع نظريات «الطرف الثالث» لتبرير الفشل الذريع فى حفظ الأمن واستعادة هيبة الدولة.
هناك ــ باليقين ــ من يريد تقويض الأمن فى مصر والدفع بشعبها إلى صدامات أهلية وفوضى سلاح فى الشارع.. وهناك من هو مستعد للنفاذ من ثغرات الأمن الواسعة لضرب بنية المجتمع، والمسئولية ــ هنا ــ تعود إلى السياسات الرخوة فى ملف الأمن على مدى عام كامل، ويتحملها العسكرى الذى امتنع عن تطهير الداخلية من رجال وزيرها الأسبق «حبيب العادلى». تعهد طويلا بإعادة الأمن، ولكن سياساته اجهضت تعهداته إلى حد تواتر الاتهامات بأن الانفلات الأمنى متعمد.
الأمن المنفلت مصحوب بإعفاء السياسة من أدوارها قاد البلاد إلى مستنقع الدم.. والعسكرى بدا حائرا ومرتبكا فى إدارة تداعيات مذبحة بورسعيد. كان أقصى ما فعل، أو تصور أن بوسعه أن يفعل فى تلك الليلة التى روعت المصريين، ذهاب المشير «حسين طنطاوى» إلى مطار شرق القاهرة لاستقبال فريق النادى الأهلى الذى أقلته طائرة خاصة من بورسعيد، ولم يخطر بباله أن يذهب لاستقبال المصابين. لم تكن لدى العسكرى أمام مشاهد المذبحة أية تصورات سياسية لمواجهة موقف داهم.. تبدى الارتباك شاملا، فلا تفكير فى إقالة الحكومة، ولا استعداد للنظر فى تشكيل حكومة إنقاذ وطنى لها سند فى البرلمان.. بل جرى استبعاد إقتراح إقالة وزير الداخلية، أو أن يطلب منه الاستقالة، فإذا لم يستقل المسئول الأول عن الأمن عقب واحدة من أبشع المذابح فى تاريخ كرة القدم ــ على ما نشرت الصحف العالمية ــ فمتى تكون الاستقالة؟
الشهادات التى سبقت التحقيقات أكدت أن المذبحة مرتبة، والمؤكد أن التقصير الأمنى فيها فادح، بما لا يجعل هناك فرقا عمليا بين التقصير والمؤامرة، فالنتائج فى الحالتين واحدة.
وهنا صلب أزمة العسكرى والاتهامات التى تلاحقه.
القضية سياسية والعسكرى تعامل معها كقضية أمنية.. ولم تكن تلك معالجة مقنعة للذين تعرضوا فى استاد بورسعيد للتقتيل، رأوا بأعينهم وقائع ما جرى، وكان استنتاجهم الجماعى فى رحلة العودة من الموت أن كل شىء كان مقصودا ومرتبا، لا مجال للمصادفة فيه، والاتهام بهذه الصياغات يتجاوز الأمن إلى السياسة وشغب الملاعب إلى القصاص.
الثأر إذن هو الدافع الرئيسى والمباشر للمواجهات الدامية فى محيط وزارة الداخلية.. ولكن مشاعر الثأر تحوطها هذه المرة اعتبارات الثورة بمقاربات جديدة ومختلفة. فشباب «الألتراس» لديهم اعتزاز بالدور الذى لعبوه فى حماية الثوار فى «موقعة الجمل»، وقد كان دورا بطوليا يعتقدون الآن أنهم قد دفعوا ثمنه غاليا فى مذبحة استاد بورسعيد.
«الألتراس» الآن فصيل سياسى من نوع فريد. دخل السياسة من باب الثورة و«الجدعنة»، ويتعمد دوره السياسى بالدم.
هم شباب متحمسون لنواديهم، لديهم أناشيدهم وطقوسهم الخاصة، لا تشغلهم السياسة كثيرا، ولكنهم وجدوا أنفسهم فى مقدمة صفوف الثورة وحماتها. هناك من يرى، وأمامه التواريخ وإشاراتها، أن المذبحة من أعمال الانتقام السياسى من «الألتراس»، وقد جرت وقائعها فى الذكرى الأولى لـ«موقعة الجمل». وهذا افتراض يصعب استبعاده، وقد استقرت إشاراته فى وجدان «الألتراس».. وهذا له انعكاساته على مواجهات المستقبل، فـ«الألتراس» لديه ثأر دم، وهذا يتطلب كلاما فى السياسة لا فى الأمن، و«الألتراس» لديه تقاليد تنظيمية يدخل بها حقول السياسة الملغمة. ذهب إلى الاحتجاج على المذبحة فى محيط وزارة الداخلية، وتجدد سيناريو «محمد محمود»، ودخلت فى المواجهة قوى أخرى لديها الثأرات ذاتها من المحرومين والمهمشين، الذى دأب الأمن على إهانة إنسانيتهم المهشمة، وربما دخلت أطراف أخرى يصفها العسكرى فى بياناته بـ«الطرف الثالث» على الخط نفسه.
دأب العسكرى على إطلاق الاتهامات دون أن يضبط المتهمين، حتى أن بعض الساخرين باتوا يصفونه بأنه هو «الطرف الثالث» نفسه.
عند بداية مواجهات شارع «محمد محمود» الثانية بدا لوهلة أمام العسكرى أن فرض حظر التجول فى قلب العاصمة بساعات الليل على النحو الذى أعقب صدامات ماسبيرو الدامية قد يحقن دماء جديدة من أن تسفك، ولكن هذه الفكرة استبعدت تماما، فالأحوال تغيرت فى الشهور التى تلت أحداث ماسبيرو، ولم تعد هناك ثقة كبيرة فى القدرة على تنفيذ حظر تجوال فى منطقة محدودة لساعات محددة. وهذا اعتراف بوهن سياسى أفضى إليه فشله فى إدارة المرحلة الانتقالية، وأن السلاح فقد هيبته. مجرد التفكير على هذا النحو يستدعى عودة العسكرى فورا إلى أدواره الطبيعة على الحدود والخروج من مسارح سياسة فشل أن يؤدى عليها أدواره المستجدة.
فى اعتقاد قيادة عسكرية كبيرة لديها خبرة عريضة أن «مصر تبدو عربة بعجلتين، عجلة الثورة وأهدافها وعجلة الدولة واستمرارها.. وأن هناك تعارضا يحدث فى مراحل الانتقال بين الاعتبارين وتمضى كل عجلة فى اتجاه». وهو توصيف لمعضلة العسكرى فى إدارة الدولة، لكنه لا يكفى بمفرده لتفسير الفشل. السياسات تناقضت مع ضرورات الثورة وعرقلت تحقيق أهدافها، لا حاكمت الرئيس السابق بما يستحق من اتهامات، ولا اقتربت من ملف تطهير أجهزة الدولة، فمالت العربة على جانب، وأخذت تمضى مسرعة بأحداثها، حتى تكاد تنقلب بالكامل مع ركابها.