انتهت المرحلة الأولى من الانتخابات الأولية والتى شملت أربع ولايات. كانت الانتخابات فى كل ولاية قائمة بذاتها. وبتدشين المرحلة الثانية فى أول مارس، فيما يعرف بالثلاثاء الكبير، تجرى الانتخابات فى اثنتى عشرة ولاية فى آن واحد، وهو ما يعطى لهذا اليوم وزنا غير عادى ويعتبر يوما حاسما بالنسبة للمرشحين. ويحرص كل مرشح سواء كان عن الحزب الجمهورى أو الديمقراطى على جمع أكبر عدد من أصوات المندوبين المؤيدة له فى مؤتمر الحزب والتى بموجبها يتم اختيار مرشح الرئاسة فى الانتخابات العامة. ويعقد الحزبان مؤتمريهما كل أربع سنوات، ومن المزمع عقد المؤتمرين هذا العام فى يوليو المقبل. ويذهب الكثيرون إلى الزعم بأن الانتخابات العامة سوف تنحصر ما بين ترامب عن الحزب الجمهورى وكلينتون عن الحزب الديمقراطى. وإن كان ذلك هو المرجح ظاهريا، فإنه فى تقديرى سابق لأوانه.
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هيلارى كلينتون بفوزها الساحق فى ولاية جنوب كارولينا بفارق أكثر من خمسين فى المائة على منافسها، واحتكارها أصوات الأقليات لا سيما أصوات الأمريكيين الأفارقة فى انتخابات الثلاثاء الكبير، وفوزها بثمانى ولايات من مجموع اثنتى عشرة ولاية تكون قد حسمت نجاحها. غير أن الأمر ليس كذلك، فإن ساندرز مازال صامدا فى السباق بفوزه فى أربع ولايات، كما أنه يداوم على جذب مزيد من التمويل الذى يسمح له بمواصلة حملته. ويرى الكثيرون أنه رغم الفوز الذى حققته كلينتون، فإن أمرها يشوبه كثير من الشكوك والمخاوف، ويمكن الإعلان بين ليلة وضحاها أن هيلارى كلينتون غير مؤهلة لخوض الانتخابات، إيماء إلى فضيحة استخدام بريدها الخاص فى تبادل معلومات «مصنفة كمحظورة» أثناء عملها كوزيرة للخارجية. وينظر حاليا مكتب التحقيقات الفيدرالى فى هذه القضية وإن كان لم ينطق بقراره بعد. وفى هذه الحالة يبقى السؤال مطروحا ما إذا كان ساندرز ــ سيحصل على تأييد الحزب بدلا منها، وهو أمر بعيد المنال لاستمرار انتقاده للمؤسسة ووسم نفسه بالاشتراكى، وهى مازالت كلمة منبوذة فى الولايات المتحدة. ويتعين على مرشح الحزب الديمقراطى الحصول على ألفين وثلاثمائة وثلاثة وثمانين صوتا من مجموع أصوات المندوبين الذين يفوق عددهم الأربعة آلاف ليصبح مؤهلا لخوض الانتخابات العامة باسم الحزب. حظيت كلينتون بموجب النجاح الذى حققته فى الثلاثاء الكبير على أصوات ألف وخمسة وخمسين مندوبا، بينما نال ساندرز أصوات أربعمائة وثمانية وثمانين مندوبا. وهو ما يجعل الطريق أمامهما مازال طويلا والسباق مازال محتدما بينهما وبعيدا كل البعد عن الحسم.
***
وعلى جانب آخر، نرى أنه تم تصعيد المعركة بين الجمهوريين إلى ذروتها، حيث بدأت مرحلة تبادل الشتائم والضرب تحت الحزام كما لم يحدث من قبل سعيا نحو وقف زحف ترامب إلى الحصول على ترشيح الحزب رغم أنف الجميع. ويبدو أن الحزب أعطى الضوء الأخضر لروبيو وكروز أن ينالا من ترامب، ويرد ترامب الصاع صاعين. ولعل عدم توجيه الضربات الشرسة لترامب قبل ذلك يكمن أساسا فى أنه لم يكن يؤخذ مأخذ الجد من قِبَل منافسيه فى الحزب تارة، ورغبة من هؤلاء فى عدم إغضاب مؤيدى ترامب، أملا فى استمالة هذه الأصوات لصالحهم فى المستقبل، تارة أخرى. غير أنه اليوم وبعد النجاحات المتتالية التى يحققها ترامب أصبح الأمر مختلفا، أضف إلى ذلك انضمام عدد من داخل مؤسسة الحزب لحملته الانتخابية، لا سيما كريس كريستى حاكم ولاية نيوجيرسى. ومن المتوقع أن تستمر المعركة الانتخابية بين المرشحين الخمسة عن الحزب الجمهورى حتى ما بعد منتصف مارس حين تبدأ الولايات فى تطبيق ما يعرف بنظام الفائز يحصل على كل الأصوات بخلاف النظام السائد فى هذه المرحلة من الانتخابات والتى يتم توزيع المندوبين نسبة إلى الأصوات التى يفوز بها كل مرشح.
ولفهم المعضلة التى نحن بصددها والهيلمان الذى يحيط بالانتخابات الأمريكية، قد يكون من المفيد أن نخصص هذا المقال إلى إيضاح بعض المسائل الإجرائية. فإن هذه الإجراءات حقا معقدة، يتوه فيها الناخب الأمريكى نفسه. فمن هم المندوبون؟ وماهى أهميتهم بالنسبة لكل مرشح وبالنسبة للحزب ككل؟ وكيف يتم فرز أصواتهم؟ وماذا يعنى أن الفائز يحصل على كل الأصوات؟ هذه الأسئلة وغيرها يجدر علينا تناولها بقدر من التفصيل.
***
ينتخب أى من الحزبين مرشحه من خلال المندوبين وليس من خلال التصويت الشعبى وهو الانطباع الذى تعطيه لنا الانتخابات الجارية الآن. ولكل حزب قواعده الخاصة فى تحديد عدد المندوبين، وعامة يتم تخصيص المندوبين وفقا للدوائر الانتخابية، فكل دائرة انتخابية قد يكون لها ثلاثة مندوبين أو أكثر، وفقا لما يرتئيه كل حزب. وعليه، يتحكم عدد سكان الولاية وعدد الدوائر الانتخابية بمجموع المندوبين الذين يمثلون الولايات فى مؤتمر الحزب. فمثلا ولاية تكساس لديها مائة وخمسة وخمسين مندوبا بالنسبة للحزب الجمهورى، فى حين أن هذا العدد يصل إلى مائتى واثنين وخمسين مندوبا للحزب الديمقراطى. وبينما يتسارع المرشحون إلى الوجود فى تكساس للحصول على أكبر عدد من الأصوات بما يمنحهم عددا لا بأس به من المندوبين، فإنه قلما يذهب أحد إلى ولاية ألاسكا مثلا حيث لا يزيد عدد مندوبيها فى مؤتمر الحزب على عشرين مندوبا عن الحزب الجمهورى وثمانية وعشرين عن الحزب الديمقراطى. ويتعين على الفائز عن الحزب الجمهورى أن يحصل على ألف ومائتى وسبعة وثلاثين صوتا من مجموع أصوات المندوبين فى مؤتمر الحزب والذين يفوق عددهم الألفين. فما يقوم بحسم الانتخابات فى النهاية هم المندوبون وليس الانتخابات الشعبية. ولقد حظى ترامب بموجب ما حققه من نجاح فى أكثر من ثمانى ولايات فى انتخابات الثلاثاء الكبير على أصوات ثلاثمائة وستة عشر مندوبا، بفارق مائة ومائتى صوت بالنسبة لكل من كروز وروبيو على التوالى. بل نجد أن كارسن مثلا الجراح من أصل إفريقى لا يحظى بأكثر من أصوات عشرة مندوبين، وهو ما يحتم عليه الخروج من السباق قريبا.
ويريد منافسو ترامب الصمود حتى منتصف مارس، حيث تنقلب بعد ذلك الانتخابات رأسا على عقب حيث تكون بنظام «الفائز يحصل على كل الأصوات»، بمعنى أنه لو فاز المرشح بأغلبية صوت واحد فى الولاية، يكون من حقه الحصول على كل أصوات المندوبين لهذه الولاية لتأييده فى مؤتمر الحزب. وهو ما يعطى الأمل لكل من روبيو أو كروز أن يحققا نجاحات أكبر من خلال اقتناء أصوات عدد أكبر من المندوبين لمنافسة ترامب فى مؤتمر الحزب.
ويمتاز ترامب على غيره من مرشحى الحزب الجمهورى بالبساطة والوضوح فى خطابه الانتخابى وتواصله مباشرة مع رجل الشارع، طارحا أولوياته حول ضرورة توفير فرص العمل للأمريكيين، واستعداده للوقوف بقوة أمام الصين وفيتنام والمكسيك التى تقوم بسلب الشعب الأمريكى وظائفه، وانتقاده الصريح للمؤسسة والسياسيين فى واشنطن، الأمر الذى يلقى استحسانا من الناخب الأمريكى. وفى هذا السياق ينتقد ترامب بشدة المفاوضات التى تجريها إدارة أوباما لإبرام ما يعرف باتفاقات المشاركة مع دول الباسفيك وفتح السوق الأمريكية على مصراعيها للصادرات الآسيوية التى تنافس المنتجات الأمريكية وتضاعف من معدلات البطالة. ويتمسك ترامب بحجته فى بناء السور بين الولايات المتحدة والمكسيك وجعل الأخيرة تتكبد نفقات بناء هذا السور.
ولا شك أن من أهم النزاعات التى خاضها ترامب أخيرا هو نزاعه مع بابا الفاتيكان أثناء رحلة الأخير إلى المكسيك فى فبراير الماضى، حيث وجه البابا الانتقاد إلى فكرة بناء حائط بين الولايات المتحدة والمكسيك، فيما اعتبر ذلك ضد تعاليم المسيحية التى تنادى ببناء الجسور وتقديم يد المساعدة للآخرين، واعتبر البابا أن تصريح ترامب منافيا لتعاليم الدين المسيحى. وقام ترامب بالرد بقوة على انتقاد البابا على اعتبار أن أحدا ليس له الحق فى التشكيك فى إيمان أى شخص أو مساءلته عن مدى تدينه وتمسكه بتعاليم دينه. فإن الولايات المتحدة نجحت فى دستورها الصادر قرب نهاية القرن الثامن عشر فى الفصل التام بين الدين والدولة واعتبرت حرية الدين من بين الحريات الأساسية للفرد لا يجوز لأحد مساءلته عنها.
***
واللافت للنظر فى انتخابات الثلاثاء الكبير إقبال الجمهوريين على الانتخابات بأعداد تفوق كثيرا عدد الديمقراطيين، رغبة من هؤلاء فى استعادة البيت الأبيض بعد ثمانى سنوات من حكم الديمقراطيين. وأن الفوز الذى حققه كل من ساندرز وترامب هو رسالة قوية من الناخب تنوه عن رفض واضح للمؤسسة السياسية برمتها وإلى رجال السياسة فى واشنطن ووول ستريت وغيرها من المؤسسات التى كانت تضرب فى الأرض فسادا وتستغل قوتها على حساب رجل الشارع والطبقة المتوسطة. وفى حين يذهب منافسو ترامب إلى توجيه اللوم إليه باعتباره لا يمت لفكر المحافظين فى الحزب وأنه يلتقى فى كثير من الأمور مع فكر ساندرز الاشتراكى الديمقراطى، فإن ترامب يدفع بأنه قادر على تعبئة أصوات جديدة للحزب آملا فى جذب كثير من مؤيدى ساندرز فى الانتخابات العامة ضد كلينتون الذين يشاركونه قاسما مشتركا وهو كراهيتهم للمؤسسة والسياسيين فى واشنطن.
مدير مركز الأمير الوليد بن طلال للدراسات الأمريكية والبحوث بالجامعة الأمريكية